أيام مصطفى جواد في الخالص .. ذكريات وطرائف

أيام مصطفى جواد في الخالص .. ذكريات وطرائف

رفعة عبد الرزاق محمد
عاش مصطفى جواد فترة من حياته الأولى في مدينة الخالص " دلتاوه " وعلى وجه التحديد قبل ان يتجاوز العشرين من عمره ، فعلى الرغم من وجود اختلاف في تعيين سنة ولادته ، الا اننا نرجح سنة 1904م فبالاضافة الى الاسباب التي ذكرها الدكتور البكاء ، والملاحظ ان تعيين سنوات أخرى لولاته ، تمت في أوقات متأخرة نسبياً ، وتوجد وثيقتان قديمتان تؤيدان ما ذهبنا اليه من ان ولادته كانت في سنة 1904م.

الأولى: ما ذكره الأب انستاس ماري الكرملي، صديقه القديم في مجلته " لغة العرب " من أنه ولد سنة1904م/ 1322ه .
الثانية : ما ذكره مصطفى جواد نفسه سنة 1934م في رده على المرحوم الشيخ محمد سعيد الراوي ( ت 1936م ) ، فقدذكر الراوي في ردوده الموسومة ( نقد في التاريخ ) ان مصطفى جواد لا يعرف خطط بغداد لأنه ليس منها ، فرد عليه جوادفي " جريدة الطريق " البغدادية يوم 9 تموز 1934م مدافعاً عن نفسه فقال ان ورقة جنسيته العثمانية تؤكد ولادته في بغداد سنة 1904م أي سنة 1322ه الرومية التركية وبقينا في بغداد سبع سنوات ثم سافرنا مع والدنا الى دلتاوه .....
والمعروف ان والد مصطفى جواد وهو [ جواد بن مصطفى بن ابراهيم ] وأصله من قره تبه في كركوك ، كان يسكن في محلة القشل ببغداد ، وانه كان خياطاً ماهراً في سوق الخياطين ببغداد ، بل انه كان من أشهر خياطي الجبب فيها ، وأصبح صُناعه – العاملون معه – من كبار الخياطين ، ويفتخرون بانهم تلامذة الأسطة جواد ، وكف بصر والده الذي ناهز عمره على السبعين ، فانقطع عن العمل وصار يعول على حاصلات بساتينه في الخالص ، والحاصلات كانت التمر وهو أرخص المحاصيل كما لا يخفى . ويذكر المرحوم فؤاد عباس ان بساتين الأسطة جواد كانت أكثر من عشرة بساتين ، وقد أشتراها استجابة لنصيحة صديقه المرحوم عباس حبابة – والد المرحوم فؤاد عباس – وأبتنى له في وسطها داراً له (أجوبة للمرحوم فؤاد عباس كان قد اجاب بها سنة 1975م في مكتبة الأستاذ علي الخاقاني) .
وقد ذُكر ان البساتين لم تعد مهمة لدى مصطفى جواد عند انتقاله الى بغداد ، واستقراره فيها فيما بعد ، ولم يستفد منها الا بعد أربعين عام ، عندما استملكتها الدولة واقامت على بعضها سراي الخالص ، ويقول المرحوم جعفر الخليلي ان ما وصل مصطفى جواد من بيع البساتين أربعة الأف دينار،أضافها الى ما تملكه زوجته وأشترى بالمبلغ كله داراً في المنصور ببغداد.
أنتقل مصطفى جواد مع أبيه الى الخالص سنة 1911م ودخل كتاتيب الملة صفية ، على الرغم من أنه دخل المدرسة الابتدائية ببغداد قبيل انتقاله ، الا انه سرعان ما تدارك أهله الأمر وأدخل المدرسة الابتدائية في الخالص .
وفي الخالص توفى والده ، ليبقى في رعاية أخيه الكبير المدعو كاظم والمقيم في دار أبيه ، وتعلم في هذه الايام الكثير من عادات المزارعين وشمائلهم ، ويبدو ان التصاقه بالخالص وبساتينها كان كبيراً ، ومن ذكرياته الطريفة في دلتاوه التي ذكرها لأصدقائه ، أنه تعلم فيها صيد الطيور ، وابتكر نوعاً من المصائد التي لا تخطئ ، كما برع في تسلق النخيل والنزول منها على رأسه كالثعبان ، وتعلم في الخالص التميز بين أنواع التمور ومواصفاتها ، حتى أنه نظم قصيدة سماها " درر النحور في أوصاف التمور " ، وأبتكر الة مكونة من مروحتين هوائيتين من صفائح التنك نصبها في أعلى نخلة كانت موضع رعاية أسرته لجودة تمرها وندرته ، وتكفي النسمة الخفيفة لتحريك المروحتين ، وبذلك تفر الطيور ولا تقترب من التمر.
لقد بقيت ذكريات الخالص حية في ذهن مصطفى جواد ، وعلى الرغم من قسوة الحياة التي عاشها في هذه البلدة ، الا أنها كانت موضع حبه وتقديره ، حتى أنه فضل ان يلقب بالديلتاوي في العشرينات القرن الماضي عندما ولج عالم البحث والكتابة ، وكان يحمل هذا اللقب حتى سفره الى باريس للدراسة .
وقد ذكر – رحمه الله – أنه عاد الى بغداد وهو لم يزل في مدرسة دلتاوه ، بسبب خلاف بين أخيه كاظم ووالدته حول تركة والده ، فقد نقله أخيه الى بغداد وأدخله المدرسة الجعفرية ثم أنتقل الى مدرسة باب الشيخ الابتدائية ( ذكر جعفر الخليلي انه عمل في دلتاوه راعيا لاغنام تعود لصهره ، الا ان أبناء عمومته في بغداد سمعوا بأمره ، وبعثوا بمن يأتي به الى بغداد ، وقد ذكر المرحوم ما يشبه هذه الرواية ( اجوبة فؤاد عباس ) ،وربما كان مصدر رواية الخليلي هو فؤاد عباس نفسه ).
ثم ترك الدراسة مرة أخرى والتحق بوالدته بعد حصولها على حكم بالوصية على أبنها " مصطفى " وأكمل دراسته الابتدائية في الخالص سنة 1920م ، وعندما اندلعت الثورة العراقية سنة 1920م كان في الخالص ، فكتب مشاهداته وذكرياته عن حوادث الثورة باسلوب أدبي ، وهذا ما نقدمه في هذه الاوراق ، وفي السنة التالية 1921م عاد الى بغداد ليدخل دار المعلمين الابتدائية وتبدأ شهرته الادبية بالظهور .
وقد كتب الدكتور مصطفى جواد شيئا عن حياته في الخالص في سيرة مختصرة له فقال : " وقد أصاب العمى والدي بسبب من الاسباب التي الى هذه العاهة ، فحسن له بعض أصدقائه ان يقتني أملاكاً في ناحية دلتاوه المعروفة اليوم بالخالص ، ويتعيش بها ... ونقلني والدي معه الى دلتاوه ، ولما بلغت الدرس في الكتاتيب ، وكانت مختلطة الأطفال يجتمع فيها الابناء والبنات ، فاسلمني والدي الى كتاب معلمة للقران الكريم تعرف بالملة صفية يجتمع فيها الابناء والبنات ، بدأت القن القران العزيز بعد دراستي حروف الهجاء على الاسلوب القديم المعروف ، ثم نقلني والدي الى مدرسة دلتاوه الابتدائية وكانت تسمى أيامئذ باسم " المكتب " واتذكر من معلميها صبري أفندي ، وكان كما يظهر من أحواله عاريا من العلم ، وعبد المجيد الاعظمي ، وعليه تدربت على خط الرقعة الذي هو خطي المعتاد ، وجزت الصف الثاني الابتدائي بحسب نظام التعليم العثماني وانتقلت الى الصف الثالث الابتدائي ، وشتاء تلك السنة دخل الجيش الانكليزي دلتاوه أي سنة 1917م متعقباً الجيش العثماني المنهزم نحو الشمال ، وقد مر الجيش المذكور بالمدرسة لوقوعها على الطريق العام من المدينة بل الناحية وكان ذلك اليوم أخر أيام دراستي في العصر العثماني.