من مذكرات هشام المدفعي..محاولة لأنشاء ميناء الفاو الكبير سنة 1986

من مذكرات هشام المدفعي..محاولة لأنشاء ميناء الفاو الكبير سنة 1986

هشام المدفعي/مهندس استشاري

نيط بعبد الوهاب المفتي امين العاصمة خلال الحرب العراقية الايرانية العديد من المهام ، وقد انجزها بنجاح كامل . واود ان اذكر هنا موضوعين ، قد لا يعرف عنهما الا القلة من المسؤولين والمهندسين .

غير ان هذين الموضوعين ، كانا من الامور المهمة ، والناجمة عن متطلبات الحرب الايرانية يومئذ . وتعبر عن التفكير العسكري للدولة في تلك المرحلة . الاول عن نقل مدينة البصرة الى مسافة ثلاثين كيلو مترا غربا ، وساتحدث عنها لاحقا ..

والموضوع الثاني الذي اود ذكره في هذه الاوراق ، هو انشاء ميناء الفاو الكبير وهو عبارة عن لسان ترابي يخرج من الاراضي العراقية ، غرب مصب شط العرب يمتد الى مياه الخليج العربي ، بطول لايقل عن عشرة كيلو مترات . بحيث تستخدم جوانبه كميناء عراقي على الخليج ، اضافة الى مينائي البصرة وأُم قصر . وكالمعتاد خابرني عبد الوهاب المفتي مساء ، بمجرد وصوله الى مكتبه بالأمانة ، وطلب مني الحضور في مكتبه . فعرض عليّ الامر التحريري من رئيس الجمهورية ، المتضمن ان يقوم امين العاصمة عبد الوهاب المفتي بتنفيذ هذا الامر خلال خمسة سنوات ويخول صلاحية رئيس الجمهورية لتنفيذ المشروع .

وعند البحث في الموضوع عرفتُ ان المفتي بحث في الامر مع رئيس الجمهورية قبل صدور الامر ، والتزم امام الرئيس بان تنفيذه سيتم خلال خمس سنوات . وعرفت ايضا ان طه ياسين رمضان ، الشخصية القيادية في الحزب والدولة آنذاك ، قد اعلمه ان الاشغال العسكرية في وزارة الدفاع قد عرض عليها الموضوع ، واجابت بان مدة التنفيذ قد تستغرق سنوات طويلة ، وان المدة التي التزم بها عبد الوهاب المفتي غير كافية ، بل قصيرة جدا ! ، لذا طلب مني ان افكر معه في مبادئ ومنهج تنفيذ المشروع .

كان الامين مرتبكاً وقلقاً حول المدة التي التزم بها مع رئيس الجمهورية لإكمال المشروع ويلوم نفسه على المدة القصيرة التي حددها ، والحقيقة ان هذا المشروع هو اوسع واهم من اي مشروع استراتيجي اخر في منطقة الخليج ، والذي يحول نسبة كبيرة من البضاعات التي تمر عبر قناة السويس او يقلل فترة وصولها الى اوربا . هدف الميناء هو استقبال معظم بواخر البضاعات المستوردة من اوربا على ظهر السفن وتحويلها الى القطارات في ميناء الفاو الكبير لإيصالها الى اوربا عبر شبكة السكك العراقية. هذا المشروع الجبار يفيد العراق اقتصاديا و يوفر فرص اقتصادية عظيمة الى العراق والشركات العالمية لكونه يختصر مدة الشحن ويقلل كلفة النقل ويدر مردودات كبيرة الى العراق عن طريق الميناء والسكك الحديد.

تدارسنا الافكار الاولية لنقل الحجر المطلوب من جبل سنام لبناء جسم لسان البروز في البحر واكدت على ضرورة مساهمة الاستشاريين المطلوبين من البريطانيين ، الأعرف بالخليج ، والهولنديين الاعرف ببناء الموانئ البحرية .

تبادر الى ذهني ونحن نبحث في الامر بعض الاعمال المماثلة في العالم واساليب تنفيذها ، ومنها المشروع الهولندي ( ziderzea )، وهو الساتر الذي وضعته الحكومة الهولندية في بحر الشمال لتمنع مياه البحر من الوصول الى مساحات كبيرة من الاراضي ودفنها بعدئذ بالتراب لتكوين اراضٍ جديدة واضافتها الى الاراضي الهولندية . كما تبادر الى ذهني ايضا العوامات الكونكريتية باحجام 50 × 10 متر ، وعمق نحو 3 أمتارالتي صممها المهندس الايطالي المشهور ( NERVY )، التي وضعت في السواحل البريطانية وسحبت يوم الانزال العسكري في الحرب العالمية الثانية على السواحل الفرنسية ، وفوقها الجنود والمعدات الحربية ، ثم اغرقت على السواحل الفرنسية لتكون قواعد ومنصات للجنود النازلين الى البر .

افترضنا ان اللسان الترابي الذي ننوي تنفيذه ، يكون عرضه 200 متر ، ليوفر مجالا للخزن المؤقت وللطرق والسكك والخدمات للميناء المقترح . فان اعتمدنا العوامات الكونكريتية ترصف الواحدة فوق الاخرى ، ثم تُكدس فوقها كتل حجرية لملء الفجوات وتكّون جسم اللسان المطلوب . ويجلب الحجر عن طريق احزمة ناقلة ، قد تبلغ اطوالها عشرين كيلومتر ، من جبل سنام الواقع في المنطقة الصحراوية القريبة جنوب غرب مدينة البصرة . كل هذه افكار اولية وبدائية ، فكرنا بها في تلك الساعة .ولكن قبل كل هذه الامور وللتفكير بشكل علمي سليم ، اقترحت على عبد الوهاب المفتي ان نعتمد مهندسين استشاريين بريطانيين لكونهم اكثر الخبراء معرفه بالخليج العربي، بالتعاون مع مهندسين وذوي خبرة هولنديين لكونهم اكثر خبرة بأمور مماثلة ، لاجراء المسوح البرية والبحرية ، والقيام بالدراسات المطلوبة ، ووضع خطة واضحة للعمل .

في اليوم التالي ، طلب عبد الوهاب المفتي من وزير التخطيط اضافة مبلغ قدره مائة مليون دينار لهذا المشروع . وادخل وزير التخطيط هذا المبلغ في المنهاج الاستثماري للسنة تلك . وبعد ايام من بحث هذا الامر ، غادر عبد الوهاب المفتي ومعه المهندسة سميرة رضاعة الى انكلترا ، لاستكمال الاتصالات الاولية مع الاستشاريين حول المشروع . غير ان اعمال المشروع كافة ، توقفت بعد القاء القبض على عبد الوهاب المفتي في ربيع 1986 ، ولم تنفذ من المشروع سوى الدراسات الاولية .ثم انتهت خدمات عبد الوهاب المفتي باعدامه كما هو معروف .

عليً ان اقول ان هذا المشروع الجبار لا يمكن ان يشيد ويعمل لصالح العراق كما نأمل ، مالم تؤخذ اطماع ومصالح دول الخليج ايضا بنظر الاعتبار ويشيد المشروع كاملا مع شبكة سكك الحديد والقطارات الناقلة للبضائع الى اوربا ، بالاتفاق مع مجموعة شركات عالمية بطريقة تمويل وتنفيذ ( تصميم / بناء / وتشغيل) وتكون للشركات حصة من الارباح لسنين محسوبة ..

عن مذكرات هشام المدفعي ( سبعون عاما في البناء والاعمار )