لويز غلوك ..  شاعرة الحياة اليومية والاساطير

لويز غلوك .. شاعرة الحياة اليومية والاساطير

علي حسين

دائماً ما تفاجئنا جائزة نوبل للآداب ، نحن العرب من المهتمين بالشأن الثقافي ، حيث أن توقعات القارئ العربي تنحصر دائماً بما تُرجم من كتب الى العربية ، وليس بما يقدم من أدب ربما لم نطلع عليه ،

ونحن في هذه البقعة من الأرض كنا نتمنى أن يحصل على الجائزة كاتب عربي ، بعد أن ظل أدونيس على مقعد الانتظار منذ سنوات ، وكانت بعض الترشيحات قد طرحت اسم أمين معلوف ، لكن ليس كل ما يتمنى المرء يحصده ، وفي اليابان التي تتنظر منذ سنوات حصول مواطنها " هوراكي موراكامي " على الجائزة ، حتى أن مجموعة كبيرة من المعجبين بصاحب رواية كافكا على الشاطئ يتجمعون كل عام قبل إعلان الجائزة وهم يتطلعون الى شاشات التلفزيون ومواقع التواصل الاجتماعي عسى أن تنطق الاكاديمية باسم روائيهم المحبوب لكنها في كل مرة تخيب آمالهم . وفي كل عام نكتشف إن حب القارئ الياباني لموراكامي أكبر من حب المتنافسين اليابانيين الآخرين. وعندما فاز الروائي البريطاني الياباني كازو إيشيغورو في عام 2017 بالجائزة ، اطلق أصحاب المكتبات في اليابان الحسرات وهم يستبدلون كتب محبوبهم موراكامي بكتب مواطنهم الذي يكتب بالانكليزية إيشيغورو ، العام الماضي نشرت إحدى الصحف اليابانية مقالاً عبرت فيه عن خيبة أمل عميقة تواجهها الأمة اليابانية كل عام حيث يتم استبعاد موراكامي من الجائزة ، ووفقاً لمصادر مقربة من الجائزة فان حظوظ موراكامي كانت عالية قبل أيام ، البي بي سي قالت في تقرير لها إن صراع موراكامي الأبدي مع نوبل يضعه في نادي الأحلام مع الروائي الكبير ميلان كونديرا الذي لا يزال منذ أكثر من عشرين عاماً على رأس قائمة المتنافسين ، وعندما تم ترشيح موراكامي لجائزة نوبل البديلة عام 2018 انسحب من المنافسة ، مشيراً إلى رغبته في التركيز على كتاباته. وقد علق بعض المتابعين بأن موراكامي يريد البقاء فقط في نادي الأحلام مع كونديرا ، والاسترالية مارغريت آتوود والكيني نغوجي واثيونغو الذي كانت الانظار تتجه إليه ، ورغم أن جمعاً كبيراً من المراهنين في العديد من مدن العالم أجمعوا على ترشيح بعض من الأسماء المعروضة على لجنة نوبل، وكانت هذه الأسماء تنحصر بين الفرنسية ماريز كوندي والروسية ليودميلا أوليتسكايا والكندية مارغريت أتوود والياباني هاروكي موراكامي والأميركية جامايكا كينكيد والكيني وا ثوينغو والشاعرة الكندية آن كارسون و المجري بيتر ناداس ، لكن الذين تطلعوا الى رئيس لجنة جائزة نوبل للاداب وهو يعلن فوز الشاعرة الامريكية لويز غلوك ، أصيبوا بالصدمة ، فهم لم يتوقعوا أن تفوز هذه المرأة التي دخلت عامها الـ 77 قبل أشهر ، وهي نفسها لم تصدق الفوز بأكبر جائزة أدبية ، حتى أن رئيس اللجنة وهو يتصل بها قالت له إن الأمر مفاجأة لم تكن تتوقعها ، مثلما لم تكن تتوقع أن تقترب سنوات عمرها من الثمانين ، بعد أن أعلن الأطباء قبل أكثر من ستين عاماً أن لا أمل في استمرارها بالحياة ، تتذكر أنها في الرابعة عشرة من عمرها أصيبت بمرض غريب قال عنه الأطباء إنه " فقدان الشهية العصبي " ، وبعد سنوات ستصف المرض بانه نتيجة للبحث عن استقلاليتها في الحياة ، ورفض منطق الوصاية التي كانت أمها تريد فرضه عليها ، ساعدها العلاج النفسي على التأمل ، قالت إنها كانت تتوقع الموت في كل يوم ، لكنها أصرت أن تعيش من أجل أن تثبت للاخرين نفسها :" ما كنت أعرفه بشكل أكثر وضوحاً وبشكل أكثر عمقاً، هو أنني لا أريد أن أموت".

غلوك هي المرأة الاميركية الثالثة التي تفوز بنوبل ، فقبلها فازت بها الروائية بيرك باك عام 1938 وفازت توني موريسون عام 1993 ، وهي الآن صاحبة الرقم 16 في قائمة النساء اللواتي خطفن جائزة نوبل للآداب باستحقاق ، وهي أول شاعرة اميركية تتوج بأهم جائزة أدبية عالمية .

حاولت لويز غلوك أن تقترب من الرواية في بداية حياتها الأدبية ، فهي تملك حكاية يمكن أن تصبح رواية مؤثرة ، حكاية عاشتها على سرير المرض سبع سنوات ، لكنها وهي تحاول أن تكتب روايتها الأولى وجدت نفسها عاجزة ، ولم تبدأ بكتابة الشعر إلا بعد أن توقفت عن التفكير برواية وقائع حياتها . بقيت تكتب قصائدها سراً في سن مبكرة، متأثرة بالأساطير اليونانية والقصص الكلاسيكية التي تعلمتها من والديها ، القصائد الى صديقاتها ، البعض منهن يسخرن من هذه الفتاة التي تحلم بالشهرة وهي على سرير المرض ، إلا ان قررت عام 1968 أن تنشر أول كتبها ، وكان عمرها آنذاك " 25 " عاماً ، قالت إنها صممت خوض التجربة دون خوف ، وعندما ذهبت الى دار النشر لتسلم أول نسخة من الديوان ، قررت أن تخبأها خوفاً من سخرية المحيطين بها ..كان عليها الانتظار أكثر من ثلاثة أشهر لتعلن إنها أصبحت شاعرة ..وبعد 52 عاماً بالتمام والكمال سيقول عنها رئيس لجنة جائزة نوبل بانها أفضل شاعرة على قيد الحياة ، مشيداً بصوتها الصريح والواضح والذي لاهوادة فيه ، مشيراً الى أن مجموعاتها الشعرية الاثنتي عشرة ، تميزت " بالسعي إلى الوضوح" ، وقارن رئيس اللجنة كتابات لويز غولك بكتابات الشاعرة الاميركية الشهيرة إميلي ديكنسون التي كانت توصف بأنها شديدة الوضوح في عدم " استعدادها لقبول مبادئ الإيمان البسيطة". ولعل اعجاب غلوك بديكنسون قديم منذ أن عثرت على مجلد قديم بعنوان " قصائد إميلي ديكنسون " ، وستقرأ أن ديكسنون أيضاً كانت تكتب الشعر سراً ، وتخفيه حتى عن عائلتها ، وإن قصائدها كانت تسجيلاً لحياتها اليومية ، عن المسرات والأوجاع التي مرت بها ، ولهذا امتلكت أسلوباً شعرياً شديد الخصوصية يلائم شخصيتها التي كانت توصف بالمعقدة ، وتدرك غولك أن المكانة التي حصلت عليها ديكنسون ، كانت بسب أن شعرها كان انعكاساً عن تجاربها النفسية والرغبة في التعبير عن ذاتها . ولهذا نجد أن غلوك في قصائدها تحاول أن تبرز أحلامها وأوهامها ، إنها كما قال تقرير الجائزة :" تكتب الشعر السردي الأحادي الذي يذكر بالذكريات والأسفار ، فقط للتردد والتوقف للحصول على رؤى جديدة. العالم محروم ، فقط ليصبح حاضراً بطريقة سحرية مرة أخرى " .

ولدت لويز إليزابيث غلوك في 22 نيسان 1943 في مدينة نيويورك ، وهي أكبر شقيقاتها ، هاجر أجدادها اليهود من المجر الى الولايات المتحدة الاميركية في بدايات القرن الماضي ، كان والدها أول طفل للعائلة يولد في اميركا ، امتلكت العائلة متجراً لبيع المواد المنزلية ، إلا أن والدها كان يطمح أن يصبح كاتباً ، لكنه فشل في تحقيق حلمه ، مما أدى به الى أن يغرس في ابنته حب الأدب والقراءة ، فقرأت دانتي وتأثرت به وهي في الثانية عشرة من عمرها ، وكان إليوت ملهماً لها ، وظلت تردّد على مسامع العائلة مقاطع من قصيدته الشهيرة " الأرض اليباب " ، في مراهقتها تصاب بالمرض ، تقضي أوقاتها بقراءة الأساطير اليونانية والقصص الكلاسيكية ، وكانت لهذه القراءات تاثيراً واضحاً على شعرها ، بسبب المرض لم تلتحق بالجامعة ، وقد وصفت قرارها بالتخلي عن التعليم لصالح العلاج بانه ضروري :" حالتي النفسية ، جعلت من التعليم مهمة شاقة " ، لكنها ستلتحق بورشة للشعر كانت تقيمها جامعة كولومبيا ، عام 1967 تتزوج من تشارلز جونيور، وسرعان ما سينتهي هذا الزواج بالطلاق ، مجموعتها الأولى " البكر " ستحظى باهتمام النقاد ، وبسبب مزاجها المتعكر تتوقف عن كتابة الشعر حيث عانت من حالة نفسية ، ستعود عام 1975 الى القصائد ، تصدر مجموعتها الثانية " بيت في المروج " وفيها تستعير شخصيتي يوليسيس والساحرة بنيلوب ، لتنسج قصائد حول الحب والزواج والفراق والخيانة والرغبات ، وسيكتشف القارئ لهذه القصائد أن صوت الشاعرة ينطلق من خلال زوجة يوليسيس ، وقد كانت هذه المجموعة تعبر عن حالتها النفسية بعد طلاقها من زوجها ، اعتبر النقاد هذه المجموعة انجازاً كبيراً في الشعر الاميركي، وإنهم اكتشفوا صوت شعري متميز ، عام 1976 تصدر مجموعتها الثالثة " الحديقة " التي تضعها في مصاف الشعراء المتميزين ، عام 1992 تحصل على جائزة بوليتزر عن ديوانها " القزحية المتوحشة ، كما حصلت على الجائزة الوطنية للشعر عن ديوان " انتصار اخيل " الصادر عام 1985، وصفت هذه المجموعة الشعرية بأنها "أكثر وضوحاً وأنقى وأكثر حدة" من اعمال غلوك السابقة ، فيما اكد العديد من النقاد أن غلوك أصبحت "من بين الشعراء المهمين في عصرنا". في عام 1984 ، تنظم غلوك إلى هيئة التدريس في كلية ويليامز كمحاضرة في قسم اللغة الإنكليزية، في العام التالي ، يتوفي والدها ، تكتب إنها تلقت أكبر الخسارات في حياتها ، تصدر مجموعة شعرية بعد وفاة والدها بعنوان " أرارات " وصفتها صحيفة نيويورك تايمز بأنها "أكثر كتب الشعر الأميركي وحشية وحزناً نُشر في الربع الاخير من القرن "، تصدر عام 1994 كتاب عن الشعر بعنوان " براهين ونظريات .. مقالات في الشعر " ، فازت بالعديد من الجوائز الأدبية الكبرى في الولايات المتحدة ، بما في ذلك ميدالية العلوم الإنسانية الوطنية ، وجائزة بوليتزر ، وجائزة الكتاب الوطنية ، وجائزة دائرة نقاد الكتاب الوطنية ، وجائزة بولينجن ، عام 2003 تتوج باعتبارها ابرز الشعراء الامريكان .

تقول إن الشعر كان مخيباً لآمالها في البداية ، فهي كانت تريد أن تستقر داخل الأدب من خلال الرواية ، لا أن تنظر الى الحياة من باب الشعر ، لكن الأسلوب القصصي ظل واضحاً في قصائدها ، فهي تبحث دائماً عن غاية ما وسط التفاصيل الحياتية التي تحيط بها :" يجب أن تكون هناك مرجعية ما لهذه الحياة العبثية سواء قصرت أو طالت" . وقد ظل الشعر هو الإطار الذي انتظمت حياتها به ، إلا أن الحياة دائماً ما كانت تضيق بها حتى أن تجربتها الثانية في الزواج انتهت أيضاً بالفراق ، تأتي الحياة الداخلية أولاً عند غلوك ، وتبقى مُلكاً خاصاً لها ولهذا نجدها تعارض ما تسميه " البوح النسائي البغيض " ، في مقالاتها تشيد بالنبرة الأسطورية عند إليوت ، وفي حالة الاستماع الى الذات عند ديكنسون ، والصمت الطوعي الذي واجه به عزرا باوند الحياة ، تتذكر أنها شغفت بديوان باوند "الأناشيد" حيث وجدت فيه صوتاً داخلياً عميقاً ، رفض الحداثة لمجرد الشكل وأصر أن يمنح الأسطورة مكانتها في الشعر

في حوار معها قالت إنها تمنت لو أصبحت كاتبة وجودية ، لأن هذه الفلسفة أصرت على أن يرتكن الكاتب الى تجربته الشخصية وهي تحفظ جملة الفيلسوف الوجودي الفرنسي ميرلوبونتي :" الحياة تصير أفكاراً ، والافكار تعود الى الحياة " ، وهو ما جعلها تؤكد أن قصائدها هي بحث عن الوجود الفردي .

قرار الاكاديمية السويدية لجائزة نوبل للآداب أكد أن غلوك، تميزت بالسعى إلى الوضوح، فموضوعاتها عن الطفولة والأسرة ، العلاقة الوثيقة مع الوالدين والأشقاء، هى مواضيع ظلت محورية معها، وفى قصائدها نجدها تسترجع ما تبقى من أحلامها ، حيث تنطلق أصوات دانتي واسخيلوس ويوربيدس ، وجميع الذين حاولوا أن ينزعوا عن الذات البشرية قناعها المصطنع .