محمود ياسين...  البطل  في سينما الحبّ والحرب

محمود ياسين... البطل في سينما الحبّ والحرب

يسري عبدالله

مات محمود ياسين.. وهل يمكن للموت أن ينسينا الأحبة؟ هل يمكن للفراق أن يحمل سمرة الطمي، وصبر النيل، وروح المقاتل التي حملها محمود...

لا جدوى للمجاز مع عنف الموت وقسوته، لكنه حتما يليق بروح الفنان المؤمن بدوره، الموقن كما اعتقد محمود ياسين بأنه، بفنه، يسهم في تغيير العالم.

كان محمود ياسين من الممثلين القلائل الذين يدركون ماهية الفن وجوهره، نراه يتحدث دوما عن رسالة الفن، ودور الفنان، وعلى الرغم من أن هذه التصورات قد باتت قديمة في عوالم ما بعد حداثية، إلا أنها اكتست بطابع خاص في عالم التمثيل بتنوعه الحرّ، والذي عانى طويلا ولم يزل من غياب فكرة "الممثل المثقف" التي مثلها محمود ياسين، ونور الشريف وغيرهما بامتياز.

يمكن أن نتحدث بارتياح شديد عما يسمى بسنوات النشأة والتكوين في حياة محمود ياسين، فالفنان الذي تخرج من كلية الحقوق، وعشق المسرح منذ البداية، كان يخطو بخطوات وئيدة صوب مشروع فني يخصه، وكان للتحولات الدراماتيكية التي شهدتها مصر بين عامي 1952، و1973، أثرها في المردود الفني للنجم الراحل. ففي المسرح مثلا رأينا "وطني عكا"، و"حدث في أكتوبر"، وبما يمكننا أن نشير أيضا إلى أن ياسين أحد أبرز الممثلين المصريين الذين قاموا بأدوار فنية عن أعمال أدبية بالأساس لكتاب متعددين مثل نجيب محفوظ "عصر الحب"، ويوسف إدريس "قاع المدينة" وعبدالرحمن الشرقاوي "وطني عكا"، فضلا عن أعمال أخرى للأديبين إحسان عبدالقدوس، ويوسف السباعي، بجانب الروايات العالمية ومنها مثلاً دوره في "سونيا والمجنون" عن رائعة دستويفسكي "الجريمة والعقاب".

تعلق حضور محمود ياسين بالسينما صعودا وهبوطا، ففيها كانت نشأته الحقيقية، التي ألفه الجمهور من خلالها في "شيء من الخوف"، ثم ألقه المدوي في السبعينات والثمانينات من القرن العشرين، ثم استمراره نجما ضمن آخرين في أوائل التسعينات ثم تواريه نسبيا، وعودته على استحياء في أدوار صغيرة في العقد الأول من الألفية الجديدة، أدوار استمدت وهجها من روحه وخبرته، فبدت المساحة المشهدية الصغيرة حجما، كبيرة في مغزى الدلالة الكلية للعمل الفني، وإمكانات التأثير في سيكولوجية المتلقي، الذي لن ينسى مثلا "علي الحفني"، العجوز الذي لعب بالأيام، وتاجر في السلاح والمخدرات، وهو يسلم الراية لولده منصور (أحمد السقا) في فيلم "الجزيرة"، أو يوسف كمال غبريال في فيلم "الوعد".

مرّ "الجان" السبعيني، ذو الملامح العادية والمؤثرة في الآن نفسه بتحولات متعددة، تعد جزءا من تحولات السينما المصرية والعربية ذاتها. وما بين الحب والحرب تشكلت ملامح عديدة لمحمود ياسين، في تلك الفترة وبعدها، فالرجل الذي شاركته جميلات السينما المصرية في حقب مختلفة أفلامه، ممثلات متفاوتات في الأداء التمثيلي، لكنهن يتسمن بقدرة نافذة على الوصول إلى الجماهير، بعضهن يقفن في ذرى عالية مثل فاتن حمامة، وشادية، وسعاد حسني، وبعضهن يمثلن روحا متقدة بالفن والإبداع مثل ماجدة، ونيللي، وميرفت أمين، ونجلاء فتحي، ونجوى إبراهيم، وجميعهن شاهدات على الألق الذي صاحب ياسين.

في العام ١٩٧٠ كان اللقاء الحقيقي لمحمود ياسين مع النجومية الحقيقية التي بدأت من سيناريو محكم وإخراج متميز لحسين كمال في "نحن لا نزرع الشوك" أمام الفنانة الشاملة شادية، فكنا أمام طلتين متكافئتين تقريبا على مستوى الأداء الفني، والوهج أمام كاميرا لا تزيف الحقائق. وعلى الرغم من ميلودرامية القصة إلا أن الفيلم حظي بحضور لافت دشن عبره ياسين وجوده ممثلا لن تنساه ذاكرتك أبدا. يتقدم بعضها خطوة جديدة في مشواره الفني، خطوة على غرار الخيط الرفيع المشدود بعناية صوب الفن وحده، ولا شيء سواه.

يمكن للقليلين جدا أن تحضر داخل أفلامهم نجمات منتميات لأكثر من جيل، وكان من هؤلاء محمود ياسين، ففي "أنف وثلاث عيون"، كان في المتن ماجدة الصباحي، وفي المتن الموازي نجلاء فتحي، وميرفت أمين، وبين الجميع يقف ياسين معبّرا عن حالات إنسانية ثلاث تعكس تحولات الدراما وتنويعاتها داخل الفيلم.

أتاحت الملامح الجسدية للفنان الراحل حضورا كثيفا في سينما الحرب التي حاز فيها نصيبا لافتا، ومعبرا عن ملحمة الجيش المصري في انتصاره التاريخي في حرب أكتوبر المجيدة ١٩٧٣، ومن قبلها الأداء البطولي في حرب الاستنزاف عبر "أغنية على الممر"، ثم رصد لحظات الانكسار في ١٩٦٧ والانتصار في ١٩٧٣ في "الرصاصة لا تزال في جيبي" الذي حوى رمزية دالّة عبر شخصيتيه المركزيتين (محمد)، و( فاطمة)، وبينهما مرابون ومتاجرون بالهزيمة، وفلاحون، ومجندون على خط القتال. وفي سينما الحرب أيضا كانت "بدور"، و"الوفاء العظيم"، و"حائط البطولات".

وفي الدراما التليفزيونية بدا الطابع السينمائي، الذي أحبه محمود كثيرا، مهيمنا على مستوى الصورة عبر مسلسله "الدوامة"، وتوالت أعمال عديدة وصل إلى ذروتها في أدائه المتقن في مسلسلي "العصيان"، و"سوق العصر".

عن صحيفة الاهرام