حاتم الصكَر
1- لكي تصل الى رشدي في سريره الذي تلازم وإياه في سنواته الاخيرة، فأن عليك أن تجتاز باباً لايغلق على الدوام ثم تعبر حديقة جانبية ستعلم منه أنها (حديقة علي ) ولده البكر(1) التي زرعها قبل سفره فصارت عنواناً لديوان رشدي الأخير واسماً لقصيدته الرئيسة ذات المقاطع المتعددة .
وحين يجئ صوتة مرحباً مستبقاً رؤية القادم , يكون قد أزاح الغطاء أو ابعد كتابا فكأن سريره هو العالم. يواجه الخارج وهو مبحر. بحره الشعر ومياهه الكلمات . الغرفة: كأس وسجائر وصحف متناثرة وكتب مصطفة دون ترتيب أو مرمية على الأرض . جدرانها صور ولوحات باهتة وقديمة من إحداها يطل وجهه فتياً . البورتريت يحاول إحضار فتوة الشاعر الذي كان , ويستبق الغائب بمحاولة حصر حضوره قسرياً عبر ملاحمه الجميلة . ليس بعيداً عن اليد . ثمة هاتف مشرع لإحضار أي صديق في أي وقت ، من أي مكان. حين يراني يهز يده اليمنى التي زادها الوهن والمرض جمالا وترفا . ثم إجلس مشيراً إلى أي فراغ حوله : السرير أو الكرسي . ثم يقول : اسمع هذه القصيدة ويمد يده تحت السرير أو تحت الوسادة أو يفتش في صفحات كتاب .. ليجد القصيدة.
حيث تمتد يد رشدي يخرج الشعر . وكنت أداعبه كل مرة بهذه الحقيقة: إنك تخرج الشعر من أي مكان حولك . وكان هو لايفتا يذكرني بهذه الدعابة كلما التقينا.
(بالنسبة لي لم تكن تلك دعابه أو طرفة ) انني احس ذلك وأعتقده. فيد رشدي لاتبعد عن الشعر إلا بعدها عن القلم . وهذا هو سر شعرية قصائده ( أو بالاحرى قصيدته. فرشدي لم يكتب إلا قصيدة واحدة يغنيها بألف صوت وألف مفردة. يهمس بها أو يصيح يباشرها أو يناجيها. لكنها هي دون سواها.
2- في نصه تحتدم الواقعات . بل نصه حرب واقعات استهلكت حياته فأراد أن يأسرها في شعره ليتغلب عليها بعد أن هزمته . فيباشرهاويحاورها ثم يُطلقها إلى فضاء حرص أن يكون أوسع مايستطيع .يمكننا إن نسمي – إن شئنا – بضع واقعات :
– واقعة المرأة :
مجنون من يحسب أن امرأة
تعشقه وحده (3)
– واقعة الاٍنتماء:
فالعالم ليس السجن
وأهداب الدنيا بستان
العالم ،ياولدي ،الإنسان
– واقعة الإبن .الغالب :
ياولدي ترحل ؟
ها أنت بعيد
شاهدت أصابعك الملمومة حول الكاس
وعينيك السوداوين
تغيمان وترتعشان(4)
– واقعة المرض :
ساقي مشلولتان
لن أستطيع اليوم
أن اركض في الحارة
– واقعة الموت (يعبر عنها مجازياًهنا بالضمأ أو الجفاف ..)
وحدي شجيرة صبر فاتها مطر
وخافق متعب جفت حناياهُ
يظل يصرخ من جوع ومن لغبٍ .
إن غاب عن فمه المنهوم ثدياه
وبتعبير مباشر :(زارني الموت | ما ألعن الموت…)
واقعات لا تنتهي . تتنوع لتجد لها معادلا في الشعر وما السرير ( الذي كنيت عنه بالعالم ) إلا متمما للحديقة التي زرعها علي . وهي حديقة رشدي كما لاحظ الشاعر حميد سعيد وهو يكتب مقدمة لديوان ( حديقة علي ) اسقاطية أخرى في ارتباكات شعورية يمر بها رشدي . وحين يحدد الشاعر إبعاد عالمه لا يعسر علية أن يصير كل شيء شعراً اليفاً بسيط التراكيب , عالي النبرة , موسيقياً , تنتحر معانيه من أجل حياة قافيته وايقاعه . لا تقف الإشكال عنده في حدود ما فالتقليدي والحديث العمودي والحر المباشر والمرمز أسماء لاتهم رشدي فتراه يكتب من هذا وذاك فكأنه شعراء عدة في واحد
3- في 1986-07–11يهديني رشدي نسخة من ديوانه ( حديقة علي ) وعليها يكتب إهداء مشاكساً ( أخي حاتم سأظل شاعراً رومانسياً ) لقد كان يشير دون شك إلى مقالتي عنه ( غتاء الالوان المهاجرة ) حيث قلت ان رشدي قد وجد خطابه عبر نبرة غنائية وجو رومانسي يؤطر قصائده حتى تلك التي يوهم القارىء بأنها واقعية ( احتكاما إلى موتيفاتها : حدث- شخصية- موقف ) فهو يختار زوايا ومدخل ومعالجات تضعه دوماً في ( مواجهة ) موضوعة مباشرة فيعلو صوتة
ويتجه إلى الخارج مبرزاً ذاته لتكون ( بؤرة ) تنطلق منها أشعاعات نصه حتى تلامس الخارج, لاكنها مشدودة إلى مركز بدايتها : الذات . ففنائية رشدي وجدت في المأساة موضوعاً وشكلاً تعبيرياً متلازمين .
كما أشرت في المقالة ذاتها إلى مناقشة بين وبين الوميل ماجد السامرائي (9) . وكان رد رشدي على السامرائي بعنوان طريف وموحٍ : ( نعم , إنا شاعر رومانسي )
فهل كانت رومانسيته أمتيازاً أم عيباً ؟ تقليداً ومحافظة أم خصوصية وهوية ؟
أن الخطاب الرومانسي واضح في شعره . فالقصيدة , كما أعترف في مناقشاته تلك :
( تتحكم إلى درجة العذاب . تمزقني . تغري عروقي . وأحياناً تتعطف علي فأحبها في الحالين. ) قصيدته أستجابة لحالة . ورود العناصر مايشتمل عليه خطاب رشدي من مفردات مأساويه , وضغط خارجي تنوء منه القصائد . ولقد كان رشدي يخاط ذلك كله بحاسة غريبة كان ( يشم ) الألوان كطائره الذي يقول عنه :
الطائر المذبوح
يشم لون عشه
فتستفيق الروح (10)
4- في أخر مقابلة معه قبل موته ، يتحدث رشدي عن ( وجه أمه ) واحداً من رموزه المتكررة . ثم يروي فجأة واقعة حياتية عن أمه التي قالت له قبل أيام : ( أن الأبناء يأخذون أمهاتهم إلى المتنزهات والمسارح . أما رشدي ففضيلة أنه لم يترك سجناً أو مستشفى لم يرني إياه )
حياته مغطس يجر من حوله إليه . وتلك كانت حدود عالمه . مكانه فوق السرير أو بين الجدران
كتب قصيدة ( رمال المرفأ ) وهي مهداة إلى صديقه الشاعر محمد سعيد الصكار وقد حذف الإهداء في الديوان . لاتقول سوى جملة واحدة عبر أبياته المتعددة : ( لم أسمع بباريس . لائنني لاأعرف إلا مكاني هنا مكاناً . ) فالمكان عنده مقدس .
كثيراً ما تحسر وهو يدخل حديقة اتحاد الأدباء ببغداد . ففي نهاية الممر الصغير , حيث تكدس الأ أن الصناديق الفارغة والأشياء القديمة , كانت الزاوية المخصصة لرشدي وشباب الشعراء حين تأسس اتحاد الأدباء لأول مرة .
كان أسمها ( المرفأ ) . واتفق الأصدقاء أن يضعو الأسم فوق إصداراتهم الشعرية .
ماذا حل بالمرفأ ؟
مطابقة أخرى بين واقعة خارجية وواقعة شعرية .
أن مفردة ( المرفأ ) وتنويعاتها هي أكثر المفردات إلحاحا في شعر رشدي . فقد كان يرى العالم بحراً …والسعادة مرفأ لاتصله السفن إلا غرقا أو محطمة .
يعادل ذلك ( الضمأ ) .
حالة أخرى عاشها رشدي ووافق تشخيصها ما ذهب إليه الزميل السامرائي في دراسة عنه . فهناك ترميز للضمأ عبر ( كأس بلا شارب أو فانوس بلا ضوء أو قاع نهر يابس …) وفي قصيدة مهمة هي ( سوناتا للوحدة ) يتماهى مع تلك الصور ويؤكد حالة الضمأ التي عبر عنها :
وأنا ضوء الفانوس
وحارس نصف الليل
وقاع النهر اليابس
وطفل ضيع طعم الثدي
والكأس يغادرها الشارب
الشارب المغادر هنا يترك ضله في الكأس الفارغة . فيغدو ضمأ الشارب ضمأ الكأس نفسها هكذا يلتقط رشدي ( ثيماته ) الشعرية
مقدمة ديوان رشدي العامل " الطريق الحجري "