التماثيل والنصب الاولى في مدينة بغداد

التماثيل والنصب الاولى في مدينة بغداد

 د. كمال رشيد العكيلي

إنّ ماتمثلهُ التماثيل والنصب من معانٍ أخلاقية وإبداعية وجمالية سامية وقيمة عظيمة تحمل دلالات كثيرة تجسد أصالة الفن العراقي والأعتزاز بمبدعيها إلى جانب وقعها النفسي في شخصية المواطن البغدادي،

لارتباطها بحقب مختلفة من تاريخ بغداد السياسي والأجتماعي والثقافي والفني لذا زينت مدينة بغداد مجموعة كبيرة من التماثيل والنصب يعود معظمها إلى المرحلة الممتدة من مطلع العشرينات إلى نهاية السبعينات من القرن العشرين وهي فترة بحثنا هذا ، وتشهد هذه الأعمال النحتية على التحولات الكبيرة التي عاشها العراق في تاريخه الحديث وتعكس تطور الحياة الثقافية في مدينة بغداد كونها تملك واقعاً تاريخياً وثقافياً وإنسانياً غزير يستطيع النحاتون أن يستلهموا منهُ مايشاؤون من الأعمال الفنية المميزة .

والمرحلة الأولى وهي المرحلة التي سبقت ثورة الرابع عشر من تموز عام 1958م ، أي منذُ العشرينات وحتى عام 1958م حيثُ إن مدينة بغداد لم تشهد شوارعها وساحاتها أنذاك سوى (3) تماثيل كبيرة وتمثال أخر صغير .وربما تكون هناك بعض التماثيل الجبسية الاخرى التي تناثرت هنا وهناك بين البيوت والقصور الفخمة حينها ، ومنها العديد من تماثيل الأسرة المالكة في العراق والتي تقبع في حينها في متحف الأزياء والمأثورات الشعبية .

تمثال الجنرال مود

نصب أمام السفارة البريطانية في منطقة الشواكة عام 1923م ، وحطم صبيحة ثورة 14 تموز عام 1958م .وهو الجنرال الانكليزي الذي دخل مع قواته إلى مدينة بغداد في 11 / أذار 1917م بعد هزيمة الاتراك في الحرب العالمية الاولى . ولاجتياح مرض (الهيضة ) بغداد أنذاك ، وماأكثر الامراض التي كانت تجتاح بغداد وتحصد أرواح البشر فقد خطفت الهيضة حياة الجنرال مود في بغداد ودفن في مقبرة الانكليز الواقعة في منطقة الكرنتينة .لذا تقرر أن يُقام لهُ نصب تذكاري يخلده وبالفعل فتح باب الأكتتاب والتبرع لأقامة هذا النصب الذي صور الجنرال مود وهو يمتطي صهوة جواده بلباسه العسكري ونصب في منطقة الشواكة في جانب الكرخ في الساحة المقابلة للسفارة البريطانية.

تمثال عبد المحسن السعدون

يقع حالياً في ساحة النصر ، وقد صنعهُ في عام 1933م النحات الأيطالي (بيتروكانونيكا) في روما ، يعتبر تمثال عبد المحسن السعدون رئيس الوزراء في العهد الملكي من أقدم تماثيل العاصمة بغداد حالياً .

ويأتي إقامة تمثال للسعدون بمثابة تكريم من الحكومة العراقية لهُ ، ولموقفه من الاستعمار البريطاني المتحكم في شؤون البلاد مما دفع عبد المحسن السعدون إلى الأنتحار عام 1929م برصاصة من مسدسه أطلقها على نفسه إثر خلافاته مع المستعمرين الانكليز حيثُ ترك وصية قال فيها مخاطباً ولده علي ( الشعب يريد الخدمة والانكليز لايوافقون ) ومن الطريف إن هذا التمثال تنقل مرتين من مكانه ، قبل أن يستقر أخيراً في ساحة النصر وسُمي الشارع بأسمه .والتمثال مصنوع من مادة البرونز يرتفع على قاعدة من الرخام يمثل السعدون واقفاً وهو يرتدي ملابسه الاعتيادية ويعتمر السدارة فوق رأسه متأبطاً في يده اليمنى ملفة أوراقه .

تمثال الملك فيصل الأول

في نفس الفترة التي صنع فيها النحات الايطالي (كانونيكا) تمثال عبد المحسن السعدون ، باشر بعمل تمثال أخر للملك فيصل الاول تخليداً لهُ حيثُ نصب في جانب الكرخ بمنطقة الصالحية عام 1936م .(63) حيثُ تم نصب هذا التمثال على قاعدة رخامية مرتفعة في ساحة الصالحية ، والتمثال يمثل فيصل الاول بملابسه العربية ( الكوفية والعقال والعباءة) وهو يمتطي ظهر جواده .

تمثال لجمن

وكما أقيم للجنرال مود تمثال في منطقة الشواكة صُنع تمثالاً صغيراً أخر للقائد الانكليزي (لجمن) الذي قتلهُ الشيخ ضاري المحمود في منطقة خان النقطة قرب مدينة الفلوجة في أحداث ثورة العشرين .والتمثال يجسد شخصية لجمن بالملابس العربية (ملابس البدو) وهو على ظهر جمل دلالة على إن لجمن كان يجوب الصحاري على ظهر هذا الجمل ويعرف مسالكها وتقديراً من الانكليز لهُ فقد تم نصب هذا التمثال في أعلى ساعة القشلة التاريخية .

والغريب إن تمثال عبد المحسن السعدون ظل موجوداً في أكبر ميادين العاصمة بغداد في حين هوت بقية التماثيل لذلك العهد فجر ثورة 14/ تموز/ 1958م . ومن سخريات القدر أن يقوم مجموعة من اللصوص المارقين بعد أحداث عام 2003م الذين أغراهم (البرونز) وثمنه الباهض المصنوع منهُ تمثال عبد المحسن السعدون ليحملوه ليلاً هاربين .وبعد حادثة السرقة مباشرةً أُعيد تصميم التمثال على يد النحات العراقي (طه وهيب) .

المرحلة الثانية : وهي المرحلة الممتدة بين عام 1958ـ 1968م وأقيمت خلال هذه المرحلة عدد من النصب والتماثيل هي :.

الجندي المجهول

لم يسبق لمدينة بغداد إن شهدت نصباً تذكارياً للجنود المجهولين ،الذين سقطوا دفاعاً عن الوطن فكان لابد

من تخليد هؤلاء الشهداء الذين رفعوا إسم الوطن عالياً بنصب تذكاري يخلدهم .فكان عام 1959م حيثُ أقيم نصب الجندي المجهول تخليداً وعرفاناً لدور الجندي العراقي الذي بذل روحه في سبيل تربة هذا الوطن . وقد أُختيرت الساحة (حالياً تسمى ساحة الفردوس ) التي يربض فيها هذا النصب الجميل بالذات تخليداً لدخول قوات جيشنا الباسل من هذه الجهة ، لانهاء الحكم الملكي وإعلان الجمهورية صبيحة يوم 14 تموز عام 1958م .

نصب الجندي المجهول شارك بتصميمه وعمله ثلاثة مهندسيين عراقيين هم عبدالله إحسان كامل ، ورفعت الجادرجي، وإحسان شيرزاد .ويزور هذا النصب كل الرؤساء والملوك الذين يزورون العراق حيث يؤدون مراسيم الزيارة لهُ ، ويضعون على القبر باقات من الزهور ، كذلك تقام فيه الاحتفالات الرسمية وغيرها من المناسبات الوطنية الاخرى .

نصب الحرية

أُزيح عنهُ الستار في عام 1961م، في قلب العاصمة بغداد وأشهر ميادينها (ساحة التحرير) في منطقة الباب الشرقي يشمخ نصب الحرية شاهداً على تاريخ العراق الحديث ورمزاً لثورة الشعب على العبودية والتبعية . إنهُ واحد من أهم العلامات الفارقة في الحياة الثقافية العراقية ، كان ومايزال جزءاً من ذاكرة أجيال من العراقيين بما يحملهُ من معاني شاملة لاتنتمي إلى نظام معين أو فترة زمنية معينة بالرغم من إنهُ أُقيم بعد ثورة 1958م . نصب الحرية هو من أهم أعمال الفنان جواد سليم وأخرها ، وحلمهُ الذي لم يحتمل قلبه رؤيته يتحقق شامخاً في قلب بغداد ، فتوقف نبضه وهو يعمل على وضع منحوتات النصب في مكانها في فضاء ساحة التحرير ، إذ توفي في مستشفى الجمهوري ببغداد بعد عشرة أيام من إصابته بنوبة قلبية في 23/ 3/ 1961م عن إحدى وأربعين سنة من العمر.

تمثال الأم

أُقيم في حديقة الأمة عام 1961م صنعهُ الفنان خالد الرحال يُحيط قاعدة هذا التمثال حوض دائري للماء إنتشرت على جانبيه من الداخل النافورات والاضوية الملونة ،يبلغ طول التمثال 4أمتار ونصف المتر وهو منحوت من حجر الحلان .وقد نُقل هذا التمثال قبل سنوات قليلة إلى متنزه الزوراء

نصب 14 تموز

أقيم في ساحة 14 تموز أمام الجسر المعلق عام 1963م ، صنعهُ الفنان ميران السعدي . يظهر في النصب أربعة من الجنود يشقون طريقهم نحو النصر ، وقد رفع أحدهم راية النصر عالياً بينما مسك في يده الثانية بندقيته ، فيما أستشهد أخر وهو في طريقه إلى المعركة . فكرة النصب عموماً تركز على صلابة الجندي العراقي وقوة بأسه في ساحات الوغى والقتال .

عن بحث :التماثيل والنصب في مدينة بغداد 1921ـ 1979 دراسة تاريخية