مع عبد اللطيف الشواف وذكرياته عن عبد الكريم قاسم

مع عبد اللطيف الشواف وذكرياته عن عبد الكريم قاسم

 شكيب كاظم

في سنة 2004، تولى من لندن الدكتور علي نجل الأستاذ عبد اللطيف (علي) الشواف، المولود في كرخ بغداد سنة 1926،والمتوفى في القاهرة في الخامس عشر من شهر آب/ أغسطس 1996،بعد معاناة مريرة وقاسية من المرض،

أفقدته حتى القدرة على النطق،أقول تولى الدكتور علي نشر فصول كتبها أبوه المرحوم الشواف، القاضي ومن ثم الوزير في العهد الجمهوري الأول، عن بعض الشخصيات العراقية التي وصفها بـ(النافذة)، وقد اعترض بعضهم على هذه الصفة، لكن المرحوم عبد اللطيف الشواف يرى أن بعض الذين درسهم وكتب عنهم، قد لا يستأهلون هذه الصفة، لكن شفيعه في ذلك أنها شخصيات تجمعها الطيبة والنزاهة والإخلاص للعراق.

ما يعطي هذه الكتابات أهمية قصوى، والتي يصفها الشواف بأنها لا ترقى إلى مستوى التحليل، بل هي أقرب إلى الانطباعات والذكريات عن الأيام التي أعقبت ثورة تموز،وأحداثها وعواقبها بعواملها وأسبابها وظروفها والعوامل التي أدت إلى فشلها، في تحقيق أغراضها. درس المرحوم عبد اللطيف الشواف في كتابه هذا، وعنوانه (عبد الكريم قاسم وعراقيون آخرون. ذكريات وانطباعات) درس فيه كلا من: الزعيم عبد الكريم قاسم،وسالم عيسى الوجيه،ونجيب المانع،وعلي السليمان البسام،وعبد الجليل برتو.

تستمد هذه الفصول أهميتها، وأهمها الفصل الخاص بالزعيم من هذا الذي ذكرته، وأخرى، وسطية عبد اللطيف ونزاهته وصراحته، واستقلاليته وعدم تحزبه،فضلا عن قربه من مركز القرار، واطلاعه على الأسرار والمخفي، إنه العين الراصدة المواكبة لحوادث نحو خمس سنوات، والمدققة الدقيقة، تقرأ هذا الفصل الذي تجاوز المئة صفحة، فتلمس بساطة حياة رئيس الوزراء وتقشفه، والذي ظل يحيا حياة آمر فوج- كما يقول الشواف- وليس رئيسا للدولة العراقية الغنية، حتى إذا أشار عليه بعضهم أواخر عهده بتغيير ذلك،تولى المهندس المعماري الفنان قحطان عبدالله عوني، بناء جناح يطل على نهر دجلة، لا بل ظل يأتيه الطعام البسيط،من دار شقيقه حامد بواسطة ( السفر طاس)،ولدي معلومات موثقة إنه كان يجلب له من دار شقيقته، ولعلهما تناوبا على ذلك! وكان يفرش ورق الجرائد على الطاولة، كي لا تترك بقع الطعام أثرها على الطاولات عند الأكل، لكن صديقه الأثير السيد رشيد مطلك،مدير المصايف والسياحة، يشاهد ذلك، وهو المعروف بأناقته، فيجلب أغطية قماشية كي تفرش على المائدة،تليق بشخص رئيس وزراء،ظل يحيا ببساطة لاتبارى ولا تجارى، وهذا الأمر متواتر ومعروف، ولم يتحدث عنه القريبون منه فقط والمؤيدون،بل حتى المناوؤن له ، والمختلفون معه، مثل الدكتور شاكر مصطفى سليم (1984) في سلسلة مقالاته المعنونة ( في حضرة السلطان دنفش) التي نشرها في إحدى الصحف بعد شباط 1963 ، فضلا عن القاضي محمودخالص( توفي في شباط ١٩٨١)، الذي استدعاه الزعيم إلى مكتبه في وزارة الدفاع،بوصفه رئيسا لمحكمة تمييز العراق،لخلاف في وجهة نظرهما إزاء بعض القضايا القانونية،مما فصله المرحوم محمود خالص في كتابه (ذاكرة الورق.ستون عاما من تاريخ العراق الحديث في يوميات محمود خالص) إذ يذكر في يومية الأربعاء 25 كانون الثاني 1961،ذهابه إلى مقابلة رئيس الوزراء، الذي وصل متأخرا ودعاه للغداء معه فاعتذرمنه لأنه تغدى في داره،فتغدى معه العبدي والمهداوي ووصفي طاهر. في ذكريات الشواف هذه، حديث عن اجتماعات مجلس الوزراء التي تعقد يومياً في مبنى وزارة الدفاع، وبما أن قاسما كان معتادا، منذ أيام العسكرية على العمل ليلا، وقد يمتد هذا العمل حتى الساعات الأولى من الفجر،وما قد ينتج عن السهر الطويل،عدم دقة وتركيز في قراءة مشاريع القوانين، ومن ثم تأجيلها حتى أن قانون ( إدارة البلديات) الذي أعدته وزيرة البلديات الطبيبة نزيهة جودت الدليمي، بمعاونة ومؤازرة الدكتور صفاء الحافظ والشواف ذاته، فإن مشروع القانون هذا على الرغم من أهميته البالغة- كما يذكر الشواف- ما أنجزت قراءته حتى نهاية حكم الزعيم، ومن ثمّ ترك واهمل! تنظر ص71

لقد استحدث العهد الجمهوري عديد الوزارات، مما أدى إلى ترهل الجهاز الإداري، فضلا عن صعوبة إيجاد المؤهلين لشغل هذه الوظائف، واضعين في الحسبان،إقصاء عديد الكفاءات بحجة عملها مع العهد الملكي! ولقد باح المرحوم الشواف بقلقه هذا لرئيس الوزراء،الذي فاجأه بأن قال له بحزن وأسى:" لو كنت حاضرا الضغوط التي سلطت علي لتقسيم وزارة الاقتصاد، إلى وزارة للصناعة وأخرى للنفط وأخرى للتجارة، وإلى تشكيل وزارتي الإصلاح الزراعي والزراعة وغيرها، لتصورت الآن مدى الظلم الذي وقع علي من قبل الوزراء والعناصر السياسية التي الحت علي وحضتني على الموافقة على ذلك". تراجع. ص79

يزوره مرة الشيخ مزهر بن عجيل باشا السمرمد، فيستقبله بكل احترام وتوقير ويجلسه على كرسي إلى جانبه، ثم يوصله بنفسه إلى سيارة الشيخ خارج بناية وزارة الدفاع، وكأن هذا التصرف تكفير لذنب إصداره ما عرف بقانون الإصلاح الزراعي، الذي حطم المنظومة الزراعية العراقية، لانفلات العقال الذي كان يضبط العملية الزراعية، وهجرة الفلاحين نحو المدن، وأمسى العراق مستوردا، بعد أن كان مصدرا لكثير من المنتجات الزراعية.

المرحوم عبد اللطيف الشواف في فصله هذا، يؤكد نظافة يد الزعيم من المال العام، وهذا أصبح من البديهيات الواضحات، حتى إن عدداً من مرافقيه استأجروا دورا تعود للأوقاف وتحتاج إلى ترميم، إلا أن وزير المالية المرحوم محمد حديد، لم يوافق على صرف مبلغ الترميم من خزينة الدولة، على الرغم من أن المستفيدين، هم من مرافقي رئيس الوزراء، وما تدخل الزعيم لصالح مرافقيه،لا بل أيد رأي الوزير،لكن هؤلاء المرافقين كانت لهم سطوة وحظوة وتأثير في الكثير من القرارات المهمة، ويوم أراد الزعيم تنفيذ حكم الإعدام، الصادر عن المحكمة العسكرية العليا الخاصة بمن حاولوا اغتياله، فضلا عن منذر أبو العيس، الشاب الكظماوي الذي قتل شخصا من بيت الطويل، لأنه تحدث بما لم يرض عنه منذر فقتله، فحكم عليه المجلس العرفي العسكري بالإعدام، أقول: يوم أراد الزعيم في شهر آذار 1960،تنفيذ حكم الإعدام بهذه الثلة، فإنه اصطحب معه في جولته الليلية، سكرتيره الصحفي والمشرف على الإذاعة والتلفزيون، المقدم الركن جاسم كاظم العزاوي، وطلب منه إبلاغ الإذاعة باستمرار البث، وقبل وقت قصير من موعد تنفيذ الحكم،توجه نحو دار الإذاعة ليعلن تأجيل التنفيذ ، وقد رأت ذلك في مذكرات العزاوي التي نشرها بكتاب بداية تسعينات القرن العشرين، ولعل الزعيم، ما أراد تكرار ما وقع فيه يوم نفذ إعدام ناظم الطبقجلي ورفاقه في 19 من أيلول 1959 ،وماتركت من آثار نفسية مُبرّحة عليه.

المرحوم الشواف على الرغم من براكماتيته وذرائعيته ووسطيته، فإنه ينتقد رئيس المحكمة العسكرية العليا الخاصة، العقيد فاضل عباس المهداوي، ابن خالة الزعيم، إذ يرى إنها انتهت إلى الخوض في الخلافات والخصومات التي نشأت بعد الثورة، وبذلك فقدت المحكمة مبرر كونها وسيلة إعلام ودعاية للثورة، وأصبحت على العكس من ذلك،وسيلة إعلام ودعاية لانحراف الثورة عن مبادئها، وعن مبادئ العدل وآداب المحاكمة وسلوكياتها، مما يضمن احترام المتهمين والناس والمجتمع عامة للمحكمة وقراراتها (..) ولكن المحكمة لم تستطع القيام بدورها حسبما مرسوم لها بنجاح"ص81

وإن هذا البراكماتي المتعفف، الذي لا يبخس الناس أشياءها، وينزل الناس منازلها، والناس ما هم ملائكة ولا شياطين،بل هم بشر، يصف ثورة تموز 1958، بأنها قفزة في المجهول، أكبر وأشق من أن يتحملها الوضع السياسي العراقي، ص135.

وإن الزعيم عبد الكريم لايلام وحده، بل أعوانه يتحملون جانباً مهماً من المسؤولية في تلك الأيام الضاجة بالتعجل وبالعنف والخلاف الدموي. ص111

هذا الرجل - بكل ما له وما عليه- انتهى في شوال،(كونية) وفصيحها (جولق)مثقلة بالحجر مرمية في النهر، وبهذه الطريقة المتوحشة والبعيدة عن الحضارة والوفاء والمروءة والخلق الإنساني، انتهت حياة الزعيم عبد الكريم بن قاسم البكر وانتهى وجوده على هذه الأرض. ص132