عندما اسسها مدحت باشا سنة 1869 .. الرمادي في سنواتها الاولى

عندما اسسها مدحت باشا سنة 1869 .. الرمادي في سنواتها الاولى

د . حسن كشاش الجنابي

يذكر أسيدور الكرخي في كتابه ( المنازل الفرثية ) المحطات التجارية التي كان يرعى حراستها الفرثيون عندما استولوا على العراق للمدة بين 248 – 124 ق.م على طريق القوافل التجاري البري المحاذي لنهر الفرات ، ومن ضمن المحطات التي ذكرها آنات ( عنه ) وايبولس ( آلوس ) وأس ( هيت )

ثم بسيخينيا التي فيها معبد إله التناسل ( أتركاتس) على مسافة 12 فرسخاً من هيت. فرجحت المستشرقة الفرنسية ( الواموسيل) أن تكون هذه المحطة التجارية هي مدينة الرمادي وهذا ما يكاد يطابق المسافة بين المدينتين . فمن المرجح أن تكون بسيخينيا هي الموضع القديم لمدينة الرمادي الحالية . ومما يدعم هذا الرأي هو انه عندما تم بناء المستشفى الجمهوري القديم عام 1954 ، عُثر على مقبرة دفن فيها الموتى في قبور فخارية تشبه إلى حد كبير ما اتبعه الفرثيون في دفن موتاهم . فوجود الآلهة والمقابر يعزّز استنتاج نستطيع من خلاله القول أنه كان هناك مجموعة من السكان عبدوا هذه الآلهة فـي ذلك الوقت ودفنوا موتاهم في هذا الموضع ، وفضلاً عن ذلك فإن هذا الموضع مثّل محطة نهرية على الطريق المائي لنهر الفرات ، الذي يبدأ من هيت لينقل القير والنورة باتجاه مدينة بابل منذ أقدم العصور. وولاسيما أن موقع مدينة الرمادي لا يبعد عن هيت عبر نهر الفرات سوى 63 كم . وهذه المسافة تقطعها السفن والزوارق في ذلك الوقت خلال 16 ساعة ، فهي إذن أول محطة نهرية بعد هيت تتوقف بها تلك السفن لتستفيد مما يقدمه موقع مدينة الرمادي من فرص الراحة والتزود بالمؤن بعد رحلة ليست بالقصيرة وسط النهر . وهكذا مثل موقع مدينة الرمادي محطة برية على طريق القوافل البري باتجاه بلاد الشام ، ومحطة نهرية على نهر الفرات ، إذ أن الانتقال عبر نظام المراحل جعل موقع مدينة الرمادي مؤهلاً لأن يكون إحدى نقاط التوقف على الطريقين البري والنهري وفق تقنيات النقل آنذاك . وهناك مسألة أخرى مهمة وهي أن موقع المدينة وبهذا المكان جعلها على مقربة من نهر الفرات الذي أعطاها الفرصة للاتصال بإقليمها الزراعي ، فبمجرد عبور النهر باستخدام الزوارق أو بالاتجاه البري شرقاً ، نجدها تجاور ريفها القريب . ولذلك فقد ظلت هذه الزوارق إلى عهد قريب توصل أهل الريف وما يجنوه في حقولهم من محاصيل باتجاه المدينة ، ليبيعوه ، ثم يقتنون ما يحتاجون من سلع وخدمات لا يجدونها في محيطهم .

لم نجد في كتب التاريخ القديم والإسلامي من تناول موضع مدينة الرمادي من قريب أو بعيد . ويعود ذلك حسبما نعتقد إلى صغر الموضع الذي نشأت عليه المدينة آنذاك والمرتبط بمنطقة التل الواقعة في الزاوية الشمالية الشرقية من محلة العزيزية ولاسيما وأن هناك إشارات تفيد بأن الموضع الأول الذي نشأت عليه المدينة هو موضع شبه تلي يرتفع عما حوله تجنباً لأخطار الفيضان ، التي كانت تتعرض لها المناطق المحاذية لنهر الفرات باستمرار. لكن المدينة لم تظهر إلى الوجود كحقيقة قائمة بذاتها ، إلا عندما اختارها الوالي العثماني (مدحت باشا) في المدة ( 1869 – 1872 ) كمركز حضري ، ابتغى من خلاله توفير الأمن والاستقرار على طريق القوافل التجاري الآنف الذكر ، حيث أسس في المدينة مركز للشرطة ومستشفى ودائرة للكمرك ، كما مد خطاً للتلغراف بين بغداد والرمادي لترغيب القوافل التجارية بالسير على هذا الطريق ، الذي كان محفوفاً بأخطار الفيضانات وهجمات البدو . وكان من نتيجة ذلك أن أخذت القوافل التجارية تغدو عليه ، لكونه أقصر مسافة من طريق الموصل – ديار بكر – حلب .

وعلى الرغم مما تركه مدحت باشا من لمسات حضارية لم تكن تعرفها المدينة من قبل . إلا أنها أُهملت بعد رحيله عن العراق عام 1872 ، فتدهورت على إثر ذلك الوظيفة التي تمارسها كمركز لتجهيز القوافل بالمؤن والخدمات نتيجة تردي الوضع الأمني على الطريق حتى سقوط الدولة العثمانية. لذلك ظل طريق بغداد – الموصل – ديار بكر – حلب ، الأكثر استخداماً رغم طول المسافة التي تقطعها القوافل مقارنة بطريق القوافل الفراتي . مما يقود إلى الاستنتاج بان مدينة الرمادي ارتبطت عفوياً بهذا الطريق باعتبارها مدينة من مدن المراحل ما بين بغداد والشام فاصبح تطورها مرهوناً بهذا الطريق وما يتعرض له باستمرار من فيضانات وهجمات البدو ، وهذا ما كانت تتحاشاه القوافل . مما يدفعها إلى أن تبتعد عن مجرى نهر الفرات وتسلك طرقاً أخرى . ويبدو أن هذا الطريق كان غير مأمون ولا تسلكه القوافل حتى أوائل العهد الإسلامي.

كانت المدينة في بداية تأسيسها عبارة عن قرية كبيرة تحيط بها البساتين من جهاتها الشمالية والشرقية والغربية ، تمارس وظيفتها كمركز للتسوق ومطعم يقدم الطعام والخدمات للمسافرين وسكان الريف ، ولذلك فقد انتشرت فيها الخانات التي يبيت فيها المسافرون على الطريق وسكان الريف ( مع حيواناتهم ) الذين يفدون إلى المستوطنة لغرض بيع المنتجات الزراعية والحيوانية . وقد ظلت المدينة تنمو بخطوات بطيئة . مما أنعكس على حجمها الصغير الذي لا يريد أن يغادر حدود الموضع الأول وأطرافه القريبة.

تميزت مساكن المدينة القديمة بصغر مساحتها وأنها ذات طابع شرقي ، مع وجود حالة من عدم انتظام مساحة واتجاه الشوارع والأزقة التي تطل عليها ، ونظراً لتعرض المدينة إلى الفيضانات المستمرة ، فقد تم حفر ترعة العزيزية عام 1910 غرب الجزء المعمور من المدينة ، ليوصل ما بين نهر الفرات ومنخفض الحبانية جنوب المدينة ، بقصد تخليصها من خطر الفيضان ، ثم أعقبها حفر مبزل الحفرية إلى الشرق منها. وقد أدت السيطرة النسبية على الفيضانات إلى ظهور أعداد من الدور ذات الصبغة الريفية في منطقة الحوز إلى الجنوب الغربي من موضع المدينة الأول ، مستفيدة من ترعة العزيزية في ارواء أراضيها الزراعية ، وهذا ما كان له دوره في ان يصطبغ سكنة المدينة في ذلك الوقت بصبغتين أساسيتين هما التجارة والزراعة . مع وجود ورش صناعية اجتمعت في سوق مسقوف خاص بها ، كان يسمى ( سوق علي سليمان ) .

ضمت المدينة في هذه المرحلة محلتين سكنيتين هما محلتي القطانة والعزيزية اللتين التفّتا حول الجامع الكبير والسوق . وقد قدرت ( ألواموسيل ) عدد سكان المدينة عندما زارتها في عام 1912 بـ 1500 نسمة .وتميزت هذه المرحلة بظهور السيارة كواسطة نقل رافقها فتح طريق للسيارات عام 1923 ما بين بغداد ودمشق ماراً بمدينة الرمادي القديمة من طرفها الجنوبي.

ويعد افتتاح هذا الطريق نقطة تحول جديدة في البناء الوظيفي والعمراني للمدينة ، لأنه فتح المجال لها لأن تخرج من أسر موضعها الأول وتمتد باتجاه هذا الطريق وفي الوقت نفسه أعطاها هذا الطريق الفرصة في أن توطد علاقتها بإقليمها القريب المتمثل بالريف المجاور وإقليمها البعيد المتمثل بأطراف المحافظة ، باعتبار أن المدينة وهي مركز المحافظة الرئيس تتفاعل معها المدن والقرى التابعة إليها إدارياً بالأخذ والعطاء .

عن رسالة ( الإقليم الوظيفي لمدينة الرمادي/ دراسة في جغرافية المدن )