امطار غزيرة وغرق بغداد 1968

امطار غزيرة وغرق بغداد 1968

هشام المدفعي

كانت الموارد المالية لأمانة العاصمة تتحقق من مصدرين رئيسيين : اولهما الرسوم والضرائب التي تجبى من النشاطات البلدية المختلفة ، والثاني من التخصيصات المالية من الموازنة العامة للدولة التي تصرف على مشاريع محددة .

ولم تكن الامانة تحظى بالتخصيصات المالية الكافية لإنشاء شبكات الخدمات الكاملة . لقد كان الصراع محتدما بين المواطنين وامانة العاصمة ووحداتها ، ولاسيما في اطراف المدينة . المواطن كان ـ ولا يزال ـ يطالب بحقوقه الخدمية من الشوارع والطرق والمجاري والماء والكهرباء والهاتف ، في نفس الوقت الذي يتجاهل فيه ماعليه من التزامات وواجبات .

والحقيقة ، ان مشاريع الطرق لم تتعد تبليط شبكات الشوارع ، وما يلحقها من شبكات مياه الامطار في الاحياء القديمة لبغداد ، وبعض الاحياء في التوسعات الجديدة . اما مجال الابنية ، فقد كانت الامانة تقوم بإنشاء ابنية بسيطة ، مثل دور الارامل وبعض الاسواق الشعبية ودورات المياه العامة في مركز المدينة . غير ان اصعب المشاكل التي كنا نواجهها ، كانت مشاكل الاراضي وافرازها للأحياء السكنية الجديدة ، وتقاطعها مع المتطلبات التخطيطية للمدينة ، التي لم تكن محسومة قانونيا بشكل نهائي . اما الابنية الخاصة ، وخاصة في مركز المدينة ، فكانت اشكالية اخرى ، بعد ان تقسمت الملكيات ، واصبحت مشاعة بين العديد من افراد العائلة الواحدة . اضافة الى الاستغلال الاقتصادي واعادة الاعمار وما يصاحب ذلك من فوضى . امانة العاصمة تطالب دوما بالإبقاء على الجانب التراثي للمدينة ، فتمنع اعطاءاجازات البناء للحيلولة دون اندثار هذا الجانب ، لكن هذا يجري بدون وجود خطط واضحة عن كيفية الحفاظ على الجانب المعماري التراثي في بغداد .

تضم مدينة بغداد الكثير من الابنية والابنية التراثية والاسواق القديمة . ولكن لاتوجد حلول مناسبة للحفاظ عليها او تطويرها، بما يلائم تطلعات امانة العاصمة او المواطنين على حد سواء . كما لا توجد خبرات كافية في هذا الجانب . وكنا نشعر بأهمية ايجاد الحلول الكفيلة لحل هذه الاشكالية . فقد خسرنا عددا كبيرا من تلك الابنية التراثية لعدم معرفتنا التوازن بين الحفاظ على التراث وضمان المصالح الشخصية . وكنا ننتظر اكمال اعمال تخطيط بغداد لعلها تجد الحلول السحرية لمشاكل الامانة الجسيمة .

ولم تكن الكوادر الفنية والهندسية في امانة العاصمة بالكفاءة الكاملة والكافية ، ولا يوجد من ذوي الكفاءة والخبرة الا العدد القليل . ولم تكن هناك اي شعبة او دائرة في الامانة تعني بالتراث البغدادي .

في الوقت نفسه الذي كنت اعمل فيه بكل نشاط في اعمال المكتب الاستشاري للابنية صباحا، واشارك شقيقي قحطان باعمال دار العمارة مساء ، اتصل بي صديقي المهندس رشيد الدبيسي ، واخبرني ان امين العاصمة السيد مدحت الحاج سري يريد اللقاء بي للتحدث حول مدينة بغداد ، وكان ذلك في اوائل حزيران عام 1967 .

زرت امين العاصمة ، وبعد كلمات المجاملة والترحيب ، جرى الحديث عن مدينة بغداد وسبل تطويرها . غير ان الامين في نهاية اللقاء طلب ان التحق بامانة العاصمة لاتسلم منصب رئيس الهيئة الفنية ، وهي اهم هيئات الامانة يومئذ . كما ان وزير البلديات زميلي الاستاذ احسان شيرزاد طلبني هو الاخر لزيارته للتحدث في الموضوع نفسه . وعند لقائي به ذكر انه ترك مكتبه ( الاستشاري العراقي ) لتكليفه بمنصب وزير البلديات ، فطلب مني ان اترك العمل في مكتبي واتفرغ لأعمل رئيسا للهيئة الفنية في امانة العاصمة .

بقيت في حيرة من امري .. هل اترك اعمالي والتحق بامانة العاصمة ؟ ام ارفض الطلب ؟ . بحثت الامر مع شقيقي قحطان ، فاستقر رأيي على قبول الوظيفة خدمة لمدينتي بغداد ، على ان اعمل في مكتب ( دار العمارة ) مساء .

بعد موافقتي على طلب مدحت الحاج سري للالتحاق بأمانة العاصمة في حزيران 1967 رئيسا للهيئة الفنية ، وهي اكبر وظيفة فنية في امانة العاصمة التي كانت تابعة لوزارة البلديات يومذاك . تسلمت من الدكتور نعمان الجليلي اعمال الهيئة بعدتعيينه مديرا عاماً للتخطيط العمراني .

كانت امانة العاصمة المسؤولة عن جميع الخدمات البلدية لمدينة بغداد التي تبلغ حدودها زهاء 600 كيلو مترا مربعا آنئذٍ ، وكانت مساحة الرقعة المشيدة منها نحو 100 كم مربع ، ونفوسها كانت بحدود3,5 مليون نسمة . ولم يكن لهذه المدينة تخطيط حضري متكامل ، بل كانت شركة ( بول سيرفس ) الاستشارية البولونية التي باشرت منذ فترة تعمل لوضع الجوانب التكميلية لذلك التخطيط ، فضلا عن مهماتها الاستشارية في الوقت نفسه . والواقع ان المشاكل البلدية في مدينة بغداد ، كانت كبيرة ومتشعبة ، فالخدمات بدائية والبنى التحتية مهترئة و الشعور بالالتزامات الحضرية لدى المواطنين متخلفة . فكان عليّ ان اواجه المشاكل الفنية ، واقرر الحلول لها . بالإضافة الى ادارة المشاريع الجارية وتوجيهها ، والمسؤوليات الادارية المختلفة .

لاتوجد في دوائر امانة العاصمة سوى شعبة صغيرة تشرف على اعمال مجاري مياه الامطار .اما مصلحة المجاري فقد كانت غير مرتبطة بأمانة العاصمة ، بل كانت دائرة متخصصة ، ومدينة بغداد جزء من اعمالها . وهكذا مع دوائر الماء الكهرباء والهاتف . والتنسيق معدوم تقريبا بين هذه الدوائر ، ومعظم عملها منصب على صيانة الشبكات والاعمال الصغيرة والتكميلية والمستجدة .

وهنا اذكر ماجرى في منتصف شهر مايس 1968 ، عندما هطلت على بغداد امطار غزيرة وبشكل غير اعتيادي لم يعرف من سنوات . فقد استمر هطول الامطار الغزيرة لساعات طويلة ، ولم تكن بغداد مهيأة لهذه الامطار الهائلة ، فضلا عن عدم وجود اي شبكة تصريف في الكثير من احيائها . وهكذا غرقت مناطق عديدة من بغداد القديمة والجديدة . ولم يلتحق الكثير من عمال الامانة وموظفيها بأعمالهم . لذاقام امين العاصمة بإصدار نداء عاجل لجميع العاملين في الدوائرالخدمية من موظفي الدولة،واصحاب الاعمال الخدمية الاهلية كالخبازين وسواهم الى الالتحاق بأعمالهم للمساهمة في عمليات الانقاذ وتوفيرالخدمات للمواطنين في المناطق التي غمرتها المياه ، فقدغمرت المياه جميع الاحياءالسكنية الواقعة شرق قناة الجيش في الجانب الشرقي من بغداد ، واضطرالاهالي الى الصعود الى الطابق الثاني من منازلهم ،ا ذكانت المياه تنحدر من مناطق مختلفة تمتد باتجاه نهر دجله من خان بني سعد على طريق بعقوبة القديم وحتى قناة الجيش . كماغمرت المياه المحلات القديمة الواطئة في مركزبغداد من الباب المعظم وحتى الباب الشرقي . اما في الجانب الغربي من بغداد ( الكرخ ) فقدغمرت المياه معظم المناطق والاحياء الواقعة غرب شارع 14 رمضان ، وعددا من المحلات القديمة المنخفضة.

شكلنا مكاتب للطوارئ لتسلم شكاوى الاستغاثة من المواطنين ، وتوجيه العاملين لعمليات الانقاذ والاخلاء . وقدعُهدت اليّ مسؤولية مركز طوارئ الرصافة ومقره في دائرة اطفاء الشيخ عمر،اضافة الى عملي الرئيس . واتذكرعند تجولي مع امين العاصمة في حي الخارجية في منطقة الداوودي بالكرخ ،كيف كان الماء يغمرشارع الخارجية الموازي في حي الداوودي الى شارع 14 رمضان بارتفاع نحو30 سنتمترا حتى دخل الى داخل السيارات والدور، واضطراحد المواطنين الى التجول في المنطقة بزورق صغير . وفي يوم آخرتجولت مع السيد الامين قريبا من منطقة شرق القناة ونحن على طريق قناة الجيش ، فلاحظنا ان حي جميلة كان مغمورا بالمياه تماما ، وقدصعد سكان الدور القليلة التي شيدت يومذاك الى السطوح ، وهم يلوحون بأيديهم وينادون طلبا لإنقاذهم .

اخبرَنا مديرالوحدة المسؤول عن المنطقة انه سيتم التخلص من المياه خلال ثلاثة ايام من تلك المنطقة التي تبلغ مساحتها زهاء 20كم 2 ، لأنه امر بتشغيل ثلاث مضخات مياه بقطر 4 انجا لكل لواحدة .. لم اتقبل حديث هذا المسؤول وتفاؤله ،لان كمية المياه في مناطق شرقي القناة كانت اكبرمن هذاالحل . لقد كان شارع قناة الجيش حاجزا يمنع تسرب المياه الى القناة، فأمرت بفتح ثغرات بعرض مترين لكل ثغرة،وعلى مسافة كيلومتربين ثغرة واخرى لتفريغ المياه في القناة والتخلص منها . وقد بقيت هذه الثغرات تفرغ المياه لمدة شهر تقريبا . عملت وعلى مدى اسبوعين كاملين ليلا ونهارا مع كوادرالامانة جميعا والدفاع المدني والجهات المعنية الاخرى،لإزالة اثار الامطار وسحب المياه من مناط تجمعها وانقاذ سكان المناطق المتضررة .

ان هذه التجربة القاسية ، اشعرت الجميع بأهمية وجود شبكة كاملة لمياه الامطار في بغداد . ولماذا لاتتوفر للعاصمة شبكة لتصريف مياه الامطار ؟ ولاتوجد شبكة لمجاري المياه القذرة ؟ ولاشبكة طرق تغطي حاجة المواطنين . كما ان عددا من الاحياء لم تصلها شبكة مياه الشرب . والواقع انه لايوجد لديّ الا جواب واحد ، وهو ان تخصيصات الدولة من موازنتها والنظام الضريبي لسكان العاصمة ، لايستندان الى الحقائق ومتطلبات المواطنين من الخدمات بصورة حقيقية .

عن مذكرات المدفعي ( نحو عراق جديد )