باحث ومؤرخ انحاز للفقراء واخلص للغة العربية

باحث ومؤرخ انحاز للفقراء واخلص للغة العربية

قحطان جاسم جواد

في عام 1929أبصر الطفل الدنيا قرب جامع عطا في شارع حيفا(حاليا) بكرخ بغداد .. في بيت يلاصق جامع عطا بضلعين. بعد ثلاث سنوات حدث تبديل للعملة فبدلا من الروبية دخلت الفلسان الى العملة.ويتذكر طفلنا انه كان يملك عانة هندية(اربعة فلوس)ولما سمع بتبديل العملة اراد ان يكون شاطرا فاشترى رمانة وعاد فرحا للبيت لكنه اغتاظ حين كسرها فوجدها(خربانة)وبالتالي خسر الاربعة فلوس والرمانة ! .

لانه قريب من جامع عطا كان يملأ روحه ايمانا عندما يسمع الاذان الذي يتلوه الملا عبد العبدلي،الذي كان يطلب من الاطفال الذين ينتظمون في(الملا)ان يجمعوا الماء في(الحب)وفرش البسط . ويعطيهم يومي الاثنين والخميس صرفة(عطلة صباحية ).

تاخر في قبوله بالمدرسة لان والده كان يريده ان يختم القرآن الكريم في الملا،لكن احد الاصدقاء اقنعه في الدخول الى مدرسة الفيصلية في سوق الجديد التي مازالت موجودة في شارع موسى الكاظم .

في 8/9/1933يتذكر ان جامع عطا اقام مجلس عزاء حين توفى الملك فيصل الاول . وكان سيد طه سيد عبد الله العاني هو الذي يتلقى العزاء لانه هو الذي اقام العزاء للملك .

لم يتاخر في دراسته بل كان ينجح،بالرغم من انه لم يكن ألمعياّ بل متوسط الاداء العلمي.لكنه نابغة في اللغة العربية .وهذه صورته بعمر 13 سنة نشرت في كتابي لاول مرة .

كان معلمهم حمدي قدوري الناصري يجلب لهم قراءة مصورة مطبوعة في الشام, وفيها منتخبات شعرية وكل موضوع مترجم ومختوما.وقد حبب له الادب الشاعر احمد شوقي.وكان معلمهم يدرسهم بمستوى اعلى من الابتدائية .

من زملائه الطلبة حميد محمود السعدي طبيب عيون وعلي الهنداوي طبيب مشهور وشفيق الكمالي.

أول كتاب ألفه عن الرصافي الذي صار صديقه عبر اشعاره وسيرته.وذات مرة ذهب ليراه في مقهى الرصافي بالسفينة في الاعظمية ,التي يرتادها الرصافي لكنه لم يحظ بوجوده ولقائه.ألف أكثر من عشرين كتابا اخرها صدر مؤخرا عن دار المدى بعنوان(خطب الرصافي) جمع فيه كل خطب الرصافي في المجالس الأدبية وفي مجلس النواب والأعيان.ومحبته واعجابه بالرصافي جاء في عام 1944 عندما شاهد كتابا لدى صديقه وكان سعره غاليا لكنه اقنع والده واخذ منه ديناراّ واحداّ واشتراه بـ 800 فلسا .

في الكبر عمل معلما وهو طالب كلية عام 1951 ثم عمل مصمما في جريدة الجبهة الشعبية المعارضة. وكان يعمل فيها ايضا الشاعر بدر شاكر السياب الذي كان يترجم مواده الانكليزية عن جريدة التايمز. كان طفلنا يتقاضى (8 ) دنانير في حين كان السياب يتقاضى أكثر منه.ثم عمل في امانة العاصمة كملاحظ ذاتية1955- 1960.

وعاد بعدها الى التعليم في إعدادية الكرخ ليدرس اللغة العربية الشغوف بها الى حد الجنون . وتقاعد في 1/7/1982وزاول المحاماة من 1982– 1997ثم تركها .

عرف الفنان العبقري عزيز علي عندما كانوا في بيتهم القديم حين كان علي يطير طيارة ورقية.وعندما اصبحا جيراناّ للمرة الثانية في منطقة نفق الشرطة كان يسميه عزيز(الجار القديم الجديد).وكانت لقاءاتهما يومية تقريبا.يقول ان عزيز علي عاش في عقدة انه لم يعاد له الاعتبار, وكان ذلك يحز في نفسه.ومن الذين يزورونه من الاصدقاء هم ربيع الشالجي المحامي وصبيح العاني وانا وابو طاهرة من النجف وكذلك طبيبه احمد السبتي . كما كان رفعت الجادرجي مع اخيه نصير يدعمانه ماديا ايام ازمته المالية .

اول مقال احترافي كتبه في صوت الاهالي عام 1954عن الرصافي رائد الادب الكفاحي . واخر مقال كان نقدا لكتاب مليح ابراهيم صالح شكر يصحح فيه بعض المعلومات الواردة في المقال .

والده كان من الجزيرة العربية ودرس الفقه والفكر ويحب الكتب النحوية ,وقد ورث طفلنا الكثير من كتب النحو عن والده مثل شرح ابن طفيل.والده أرسله الى الملا ليتقي شر أصدقاء السوء او غرقه في النهر وهو يسكن قربه !

حافظته قوية بحيث مازال يحفظ أبياتا تعلمها في الملا بالرغم من ان عمره صار 86 عاما .

لم ينتم لأي حزب بالرغم من صداقاته لمعظم قادة الأحزاب السياسية في العراق بسبب انه يحب حزبا يجمع كل العراقيين في أنحاء البلاد وهو غيرموجود. ولو وجد هذا الحزب (لانتميت إليه فورا )حسب قوله!.

هو يريد عراقا أصيلا ويريد لشعبه الوحدة والاتحاد.اما الحزبية فهي التي خربت البلاد ولم توحدها.ويعتقد اننا لا نملك أحزابا دستورية او قانونية...أحزابنا تعمل من اجل جيوبها في حين الأحزاب في العالم تعمل لشعوبها !

كان لا يحب ان يقترب من السلطة بالرغم من ان الأخوين عبد السلام وعبد الرحمن عارف هما ابنا خالته .. كان زاهدا لا يحب السلطة فابتعد عنهما رغم مغرياتهما له بالمناصب . مكتبته تملأ البيت وكتبه غالية الثمن ونادرة . يحب التحدث بالعربية الفصحى لانه يعشقها حتى في كلامه الاعتيادي مع الأهل والأصدقاء .انحاز للفقراء وتحفظ على ذوي النعمة مقتفيا اثر الرصافي في ذلك وكما يقول (بئس الشعراء على أبواب الوزراء ونعم الوزراء على أبواب الأدباء) . أمضى أكثر من ستين عاما في كتابة الأدب ووجد إنسانيته في شعره .يقول عن مكتبته اليوم هي واحتي في صحراء الحياة اوي الى ظلالها الوارفة وقطوفها الدانية وجدولها العذب النمير كلما امضني لهيب الهاجرة او حزبني امر من امور الدنيا.فاجد فيها روحا وريحانا ثم استغرق بين سطورها في حلم صوفي سعيد لايوقظني منه الا عندما اجد النعاس قد عقد اجفاني واخذ راسي يهوم واحيانا يسقط الكتاب من يدي من شدة الاعياء.

هذه الصورة المنشورة مع الموضوع لطفلنا في عام 1944بشارع الرشيد مجاور الخطاط محمد صالح وكان طالبا في المتوسطة. هذا الطفل هو الباحث والشاعر عبد الحميد الرشودي الذي توفي في عام 2015 .

عن كتاب ( بورتريه لذاكرة بيضاء )