طارق علي: عزل الأدب عن السياسة ضرب من الوهم

طارق علي: عزل الأدب عن السياسة ضرب من الوهم

سلمان عز الدين

يقول طارق علي في تصدير كتابه "بروتوكولات حكماء سدوم":

"تشترك هذه المقالات في رفضها للتقليل من أهمية الدور الذي تؤديه السياسة والتاريخ، مقابل الخطاب الأكاديمي الذي أصبح يسلك، بصفة عامة، خلال العقود الثلاثة الماضية اتجاهًا يجنح نحو تخدير العقول".

والواقع أن هذا الرفض يبدو وكأنه الدافع الأول (إن لم يكن الأوحد) وراء الكتاب، فرغم أن المقالات المجتمعة هنا قد كتبت على مدار عقود ثلاثة، غير أنها تلتقي عند هذا القاسم المشترك: الدفاع عن شرعية حضور السياسة في الأدب.

ساد عقدي الثمانينيات والتسعينيات تيار نقدي انتسب إلى ما بعد الحداثة، وقد نجح في ترسيخ نظرة محددة للأدب: إنه مجرد تجربة جمالية مغلقة على نفسها، لا معنى لها خارجها ولا غاية إلا ذاتها، من دون أدنى صلة بالحياة، بالواقع.. بالعالم.

بالطبع كان لهذا التيار معارضون كثر، غير أن التحدي الأكبر جاء من المنشقين عنه. تزفيتان تودوروف، مثلًا، أعلن في كتابه "الأدب في خطر" ندمه الشديد على مساهمته في إيصال النقد الأدبي إلى هذا الطريق المسدود، معتبرًا أن التيار النقدي، الذي كان من بين أبرز أركانه، صار اليوم يشكل خطرًا على مستقبل الأدب.

لا يريد معارضو ما بعد الحداثة استبعاد دراسة الأساليب والأشكال السردية، بل هم يسعون إلى عدم إعطائها الأولوية على حساب استجلاء معاني النصوص واكتشاف كنوزها من أفكار وتصورات وتجارب إنسانية. وكذلك هم لا يريدون العودة إلى مفاهيم "الواقعية الاشتراكية" التي اختزلت الأدب في وظيفته التعليمية الإرشادية التثويرية، واعتبرته مجرد أداة في بناء يوتوبيا ما. إنهم باختصار يريدون لـ"بندول" النقد أن يستقر على نقطة توازن: نظرة للأدب أكثر عمقًا واتساعًا.. نظرة تعترف، أولًا وقبل كل شيء، بأن الأدب حاضر في هذا العالم.

تنتمي مقالات "بروتوكولات حكماء سدوم" إلى وجهة النظر هذه، فرغم إصرار الكاتب على قراءة الإشارات الاجتماعية والسياسية في النصوص الأدبية التي يتناولها، وعلى الاستحضار الدائم للتاريخ كإطار وسياق، غير أنه يصوب، في الوقت نفسه، نيران النقد على الواقعية الاشتراكية ومفرزاتها وبقاياها.

ولكن هل الـ"بندول" هنا مستقر على نقطة توازن؟ لا على الأرجح، فهو ربما يشطح قليلًا نحو اليسار، ذلك أن الكاتب اليساري القديم يتجاهل، في معظم الأحيان، جماليات النصوص، الأساليب، اللغة، التقنيات.. ويسرع إلى مناقشة المضمون ـ الموضوع، ليصل على موضوعه الأثير: السياسة.

في ندوة حول رواية ماريو فارغاس يوسا "قصة مايتا"، تلقى طارق علي سؤالًا من أحد الحضور: "جاء أحد انتقاداتك للكتاب في مقالتك عنه موجهًا إلى نظرة الكاتب المتسمة بالتشاؤم الساخر، وتجاهله للضمير السياسي في بيرو... أتساءل لماذا نتوقع من كتاب أمريكا اللاتينية أن يكتبوا بضمير سياسي؟ لماذا لا يكتبون مجرد قصص أو ما يحلو لهم..؟". أجاب علي: "أنا مؤمن تمامًا بالنظرية التي تقول: إن هناك الكثير من الكتاب الموهوبين الذين ينتمون إلى اليمين يكتبون قصائد رائعة، وهو أمر بديهي ولا يضايقني. ولكنني لست متأكدًا من الفكرة التي تقول: إن الأدب العظيم هو الأدب الذي يتجاوز السياسة برمتها". ويسارع يوسا إلى الدفاع عن محاوره: "أراه خطابًا سياسيًا شديد التحضر، ولكنه للأسف ليس الخطاب السياسي الذي كان يستخدمه أقصى اليسار في أمريكا اللاتينية".

في المقال الذي منح الكتاب عنوانه "بروتوكولات حكماء سدوم" يسوق علي افتراضًا ينطوي على مفارقة ساخرة، فقد أخذ نصًا من العهد القديم يتناول حكاية سدوم وعمورة، وتخيل أن يطالب أهل سدوم المعاصرون (أي من يملكون الميول نفسها لأهل سدوم التوراتيين)، وبناء على هذا النص، بوطن خاص بهم في الأرض الموعودة، وهو يذهب بالافتراض إلى أقصاه، فيصيغ بروتوكولات تشبه تلك المنسوبة إلى حكماء صهيون.

وفي مقاله عن "دون كيخوته"، يستعرض علي السياق التاريخي الذي أنتج هذا العمل الخالد، مؤكدًا أن سرفانتس "كان يكتب في عصره، ولكنه كان يكتب لكل العصور، وكان يهدف بكتاباته إلى تحذير الأجيال القادمة".

وتحت عنوان "ريعان شباب السير سلمان رشدي"، يتناول المؤلف أثر العاصفة التي أعقبت "الآيات الشيطانية" على رشدي، إذ حوّلته إلى شخصية عامة، واحد من المشاهير "يستمتع بالإقامة بين المتملقين"، وصار كاتبًا آخر مختلفًا عن ذلك الذي كتب يومًا رواية "العار".

ويتحسر الكاتب، في مقال "الأدب والواقعية الشرائية"، على واقع الكتب الآن، فقد صار الكتاب "يُستهلك مثلما تؤكل شطيرة البورجر من ماكدونالدز. كما لم يعد عسر الهضم والرياح قاصرين على المعدة". إضافة إلى هذه يضم الجزء الأول "السياسة والأدب" مقالات عن: تولستوي، أنتوني باول، كيبلنغ، سارتر، يوسا، خوان غويتيسولو، أمارتيا صن..

وفي الجزء الثاني "يوميات" يتنقل المؤلف بين طرابلس وكاراكاس وديار بكر ولاهور.. أما الجزء الثالث فيخصصه لـ"وداع الراحلين". يكتب عن عبد الرحمن منيف: "كان.. واحدًا من أفضل الروائيين العرب في القرن العشرين. فقد نجح هو ونجيب محفوظ في تشكيل أفق الأدب العربي بأن جعلا الرواية مركزًا لتناول الهموم الثقافية والسياسية مثلما كان الوضع في أوروبا خلال القرن التاسع عشر".

• طارق على ولد يوم الواحد والعشرين من أكتوبر عام 1943 فى لاهور التى باتت عاصمة إقليم البنجاب الباكستانى له العديد من الكتب المهمة مثل "صدام الأصوليات: الحملات الصليبية والجهاد والحداثة" و"بوش فى بابل" كما أنه صاحب رواية "فى ظل شجرة الرمان" التى ترجمت أيضا للعربية وشكلت الجزء الأول من "خماسية الإسلام" وتناول فيها مأساة الأندلس.وعرف طارق على بانتقاداته الموضوعية لسياسات الهيمنة وبالقدر ذاته فإنه مناهض للتعصب والتطرف الدينى والنزعة الاستهلاكية وكان عضوا فى "محكمة جرائم الحرب" التى شكلها المفكر البريطانى الشهير برتراند راسل فى سياق مناهضة الحرب الأمريكية على فيتنام.

وفيما باتت كلية الاقتصاد اللندنية الشهيرة مركزا لأفكار اليسار الجديد، فإن طارق على أحد أهم منظرى هذا الفكر أصدر كتابه "صدام الأصوليات" عن أكبر دار نشر يسارية فى بريطانيا عام 2002 على وقع مأساة 11 سبتمبر 2001 فى الولايات المتحدة بقدر ما جاء هذا الكتاب فى إطار مناقض للكتاب الشهير "صراع الحضارات" للمفكر الأمريكى صمويل هنتجتون.

وكان طارق على أيضا ضمن من اعترضوا وتصدوا لما ذهب إليه المفكر الأمريكى واليابانى الأصل فرانسيس فوكوياما فى كتابه "نهاية التاريخ والإنسان الأخير" فى عام 1992 أى بعد انهيار الاتحاد السوفييتى ودخوله فى ذمة التاريخ بفكرة محورية فحواها أن الديمقراطية الليبرالية انتصرت وكتبت كلمة النهاية للصراع الإيديولوجى فى العالم كما أن هذا الانتصار حمل معه نهاية الأصوليات والقوميات.

عن موقع حفريات