طارق علي .. الوباء والبحث عن الاوهام الضائعة

طارق علي .. الوباء والبحث عن الاوهام الضائعة

علي حسين

شاء الباكستاني طارق علي كتابة سيرة ثقافية عن لينين ، ويعترف أن نشأته في بيت شيوعي في دولة غير شيوعية مثل باكستان ، تعني ان يكون جزءاً من تجربة ثقافية تشترك فيها جماعة كبيرة من البشر . يصف نفسه بانه " طفل الحفاظات الحمراء " ويتذكر ان غرف بيتهم كانت مليئة باعداد من الصحف والمجلات مثل " سوفيت ويكلي " و " سوفيت لتراتشر " وكانت روائع الادب الروسي تشغل مساحة كبيرة في مكتبة والده .

كان في السادسة من عمره عندما ارغمته والدته على حفظ احدى قصائد بوشكين التي ترجمت الى اللغة الأوردية ، وكان مطلوبا منه ان يلقيها خلال اجتماع لرابطة الكتاب التقدميين في اسلام آباد ، لا يزال يتذكر حماسة ذلك الطفل الذي كان يردد بصوت ناعم :" سوف تنكسر اصفادكم الثقيلة ..وسوف تتهاوى سجونكم ..وسوف تحييكم الحرية مبتهجة عند الباب ".

قال إن الادب الروسي سمح له بتغيير نمط حياته . اعترف أن المكان الوحيد الذي كان يثير اطمئنانه في صباه ، ركن صغير في غرفة والده ، حيث يجلس ممسكا بالكتاب ، يقول انه حاول في بعض الليالي ان يقلد رواية تولستوي " الحرب والسلم " ، لكنه غير رأيه وكتب قصة قصيرة عن زملائه في المدرسة : " كنت تائها، تسحرني معرفة الحقيقة، ولا شيء إلا الحقيقة في الكتب التي كنت اراها تحول اليومي الى سحر خاص "

عندما سُئل هل كان يتمنى لو عاش حياته بطريقة اخرى؟ قال مبتسما :" ، انا راضٍ كل الرضا عن ما عشته في حياتي " .

ولد طارق علي خان في 21 تشرين الاول عام 1943 في مدينة لاهور عاصمة مقاطعة البنجاب والتي اصبحت تابعة لباكستان عندما انفصلت عن الهند عام 1947 ، عاش طفولته وصباه وشبابه وسط عائلة تعشق قراءة الكتب : " كانت الكتب تطاردني في كل زاوية من زوايا البيت " ، فوالده هو الصحفي مظهر علي خان ، وامه طاهرة خان قادت حركات احتجاجية كبيرة في مقاطعة البنجاب ، وانضمت الى الرابطة الاسلامية الوحدوية وقد اصبحت فيما بعد رئيسة لوزراء البنجاب ، كان والده يُحشد الفلاحين الفقراء ضد الاقطاعيين ، وكان البعض يتهمه بالانتماء الى الحزب الشيوعي ، لكنه كان يقول انه متأثر بافكار سان سيمون ومعجب بماركس فقط .

ولد طارق بينما كان والده يؤدي الخدمة العسكرية ، وفي هذه الاثناء قررت والدته الانتماء الى الحزب الشيوعي وتبرعت بمعظم مجوهرات العائلة للحزب ، اصبح الابن ناشطا سياسيا وهو في سن المراهقة ، وكان في المدرسة يردد على مسامع الطلبة قصائد لبوشكين ومايكوفيسكي ، شارك في التظاهرات ضد الحكم العسكري في باكستان ، اخبر احد ابناء عمه وكان ضابطا كبيرا في المخابرات العسكرية العائلة انه لايستطيع حماية طارق المشاغب السياسي ، فقرر والده ان يبعث به الى انكلترا للدراسة ، حيث درس الفلسفة والاقتصاد والسياسة في جامعة أكسفورد ، لكنه لم يترك العمل السياسي ، فانتخب عام 1965 رئيسا لاتحاد طلبة اوكسفورد، وفي نهاية الستينيات قاد احتجاجات الطلبة ضد الحرب الفيتنامية ، ومع مرور الوقت اخذ يكتب المقالات التي تنتقد السياسة الاميركية ويحذر من العلاقات بين الباكستان وواشنطن .

عام 1970 اصدر كتابه الشهير : " باكستان: حكم عسكري أم سلطة شعبية؟ " الذي لفت اليه الانتباه ، يقول ان الكتاب منع من التداول في باكستان بامر الجنرال ضياء الحق ، لكن الكتاب قرئ برغم المنع بشكل واسع في القارة الهندية حتى ان رئيسة وزراء الهند أنديرا غاندي التي التقاها طارق علي عام 1984 أبدت اعجابها الشديد بالكتاب وقالت لمؤلفه انه كشف لها اشياء لم تكن تعرفها عن باكستان ، ثم اصدر كتاب " الثورة من أعلى:الاتحاد السوفياتي إلى أين؟" بعدها نشر كتاب " صدام الأصوليات: الحملات الصليبية والجهاد والحداثة" .

بدأ طارق علي كتابة الرواية في وقت متأخر بسبب انشغاله بالسياسة ، كان قد اخبر امه في رسالة عام 1967 انه يتمنى كتابة رواية ، ويتذكر أن امه كتبت له رسالة طلبت منه ان يواصل الدفاع عن قضايا بلده وان يكون جزءا من تاريخ الحركة النضالية الباكستانية ، ورغم ولعه بكتابات ماركس ولينين ، إلا انه خاض معركة مع بعض المفكرين الماركسيين الذين اتهمهم بانهم حولوا الماركسية الى معطى ثابت ونهائي وكأنها رسالة دينية :" عشتُ يسارياً على طريقتي وفخور بهذا الانتماء رغم أخطاء كثيرة تُرتكب باسم اليسار في العالم، فليس المهم أن تكون منتمياً سياسياً، لأن الأهم هو الكيفية التي تمارس بها هذا الانتماء" "

عندما بدأ طارق علي كتابة روايته الاولى " ظلال شجرة الرمان " ، قدمها الى صديقه المفكر الفلسطيني إدوارد سعيد الذي ما ان انتهى منها حتى طلب منه ان يواصل الكتابة الروائية قائلا له : "عليك أن تستمر في رواية تلك الحكايات اللعينة " . كانت الرواية تناقش موضوعة العلاقة بين الإسلام والغرب ، يروي فيها طارق علي حكاية السنوات التي أعقبت سقوط غرناطة ، قال للصحافة عن الاسباب التي دفعته لكتابة الرواية ان :" تاريخ الإسلام في الأندلس يُعبر عنه في الغرب بفقرات موجزة في الكتب المدرسية كأن تقول: " جاء المسلمون الى هنا وعاشوا ستة قرون، لكننا طردناهم " ، بعد ذلك يواصل اهتمامه بالرواية ليصدر عددا من الاعمال ابرزها " سلطان في باليرمو" " كتاب صلاح الدين" و"المرأة الحجرية " " الخوف من المرايا " ، والتي شكلت خماسية روائية قال انه كتبها بعد حرب الخليج عام 1991 ردّا على الكتاب في الغرب الذين ادعوا غياب الثقافة لدى المسلمين، وركز في كل جزء من الخماسية على حقبة تاريخية لعب فيها المسلمون دوراً سياسياً وثقافياً بارزاً : " أن كل رواية من رواياتي تتحدث عن الأمل المغدور ‬".

عام 2018 يصدر طارق علي كتابه المهم " المبارزة " والذي يكشف فيه كيف ان شريحة صغيرة من الأغنياء تُكدس الأموال، بعيداً عن حاجات الناس العاديين: " أولئك الفقراء الذين يعانون من البؤس، والارتداد إلى الدين،" ويشبه طارق علي ما تفعله الاموال في السيطرة على السلطة ، مثل سلاح كاتم الصوت ، حيث أن الاحزاب في بلدان اسيا لم تعد ملتزمة ببرامج سياسية، بل أصبحت معتمدة على المحسوبيات والعلاقات الشخصية، ، وعلى أتباع خاملين عديمي الحركة والنشاط ، يكتب عن نموذج دولة مثل باكستان :" ابتليت البلاد ببيروقراطيين، ضباطاً، وسياسيين فاسدين، وبحكومة عفنة حتى الصميم، وبمافيا محمية، ومكاسب منتفخة من صناعة الهيروين وتجارة السلاح. أضف إلى ذلك نفاق الأحزاب الإسلامية واستغلالها للدين " .

من منزله في العاصمة البريطانية اجرى طارق علي عدة حوارات مع وسائل الاعلام ، وايضا قام بادارة حوار بعنوان " فيروس كورونا ، الحرب والإمبراطورية " استضاف فيه الكاتبة الهندية أرونداتي روي ، ورئيس حزب العمال البريطاني السابق جيريمي كوربين ، وقد استهل طارق علي المحاورة بحديث عن الحروب التي لا يريد لها البعض ان تنهي

وشبه الكاتب الباكستاني ما يجري لمرضى كورونا ، بما جرى للامريكي الاسود جورج فلويد عندما صرخ " لا أستطيع التنفس " يقول طارق علي ان فلويد لم يكن يعرف أن ما جرى له يجري في انحاء اخرى من العالم ، والكثير من الناس يعانون من الصعوبة في التنفس بسبب فايروس كورونا ونقص الخدمات الطبية : " توفي جورج فلويد لأن شرطي أخرج أنفاسه منه بوضع ركبته على رقبته، وأجزاء من العالم - فلسطين وكشمير على وجه الخصوص - لا تستطيع التنفس بسبب ما يفعله مودي ونتنياهو من قمع يومي مستمر. ثم بالطبع هناك فايروس الحروب في الشرق الأوسط وأجزاء من إفريقيا التي لا تزال مستمرة والتي جاء فايروس كورونا ليصبح جزءا منها " .

ويناقش علي في مقال نشره في صحيفة الغارديان ، الدور الذي لعبته الصناعات الملوثة للبيئة في انتشار فايروس كورونا :" هل سنعود إلى الصناعات الملوثة ، أم أننا سنمنح الناس الثقة بأن الاستدامة البيئية تعني الاستثمار في الطاقة النظيفة ، وتعني الاستثمار للمستقبل ، وهي في الواقع فرصة أفضل لمستقبل العالم بأسره ، بدلاً من العودة إلى الصناعات الملوثة والخطيرة" .

ويؤكد صاحب كتاب " بروتوكولات حكماء سدوم " اننا نحتاج الى أن نخلق نظرة عن العالم اكثر بساطة واشد تماسكا من تسويغ العشوائية التي نعيشها : "ان التفسيرات السببية للاحداث التي تقع وتحاصرنا ، تفسيرات خاطئة لا محالة " ، ولكي نتجنب الخطأ والمبالغة في تفسير أي شيء يقول علي ان :" علينا ان نعرف طبيعة العشوائية التي تعيش فيها مجتمعاتنا " .

ويستنتج طارق علي أن فايروس كورونا سيمنح البشرية القدرة على اعادة نظرتها الى الاشياء ، وان يكون هناك قبول بالحاجة الى اشكال جديدة من المشاركة والتحرر التي يجب ان نصنعها بسبب الازمات التي تواجهها الرأسمالية وفشل الديموقراطية بالسماح لصوت الناس الحقيقي بان يكون مسموعا ، ويعيب على الانظمة الرأسمالية انها لم تأخذ عبرة ولا درساً مما حصل عام 2008 ، عندما انهارت اسواق المال :" اعتقد الناس ، أن بعض الإصلاحات الهيكلية كانت ضرورية. وكان هناك بعض الأمل ، بعد ان فقد الكثيرون وظائفهم ، وانهيار المصانع ، والارتفاع الهائل في البطالة ، والحجج الإيديولوجية لصالح النيوليبرالية ، أن يحدث شيء ما، لكن ماذا حدث ؟ الكثير من الخداع " ، حيث عادت الرأسمالية إلى الوراء في صورة أكثر شراسة ووحشية . ويضيف علي قائلا :" أنا أقل تفاؤلاً ، فيما سيحدث بعد مرحلة القضاء على فايروس كورونا والعودة إلى بعض مظاهر الحياة الطبيعية " .

ويختار طارق علي التمسك بوجهة نظره التي يقول انه صقلها من خلال تجارب الحياة ، وخلاصتها أن الحركات الجماهيرية وليست الانظمة البرلمانية ، هي التي ستؤدي في النهاية إلى التغيير المطلوب، وهي التي بامكانها ان تمنع تفشي الاوبئة سواء كانت امراضا طبيعية ام سياسية . ويشير الى ان فايروس كورونا كشف عن هزالة العديد من الدول التي انهارت امامه ، ويسأل عما إذا كانت حقوق الانسان في بلدان آسيا وافريقيا قد واجهت انتهاكات ضد الفقراء والأقليات والناشطين الليبراليين واليساريين بحجة مكافحة الوباء ، ويشير الى ان الكثيرين يقبعون اليوم في السجون.

وفي مقال مثير بعنوان " حلم مؤجل ام حلم ممنوع " يقول طارق علي ان عمل المفكر الحقيقي هو الإجابة عن اسئلة كيف نعيش ؟ ويضيف ان الفلسفة عبر تاريخها اهتمت بكيفية ان يعيش الانسان ، وبمناقشة اشكاليات العيش، فذلك لأن الوجود يتكون من إشكاليات دائمة: البحث عن السلطة ، البحث عن المال ، الخوف ، المرض ،الموت. كل هذه الأسئلة تربكنا وتمنعنا من العيش بهدوء. كلنا كبشر نتعرض لتعذيب الحياة لنا وعقباتها. كيف العيش رغم كل هذا؟ هناك طريقة واحدة هي مواجهة الواقع وان تكون لكل فرد القدرة على ان يجهر برأيه دون خوف ، ورؤية الأشياء على حقيقتها ، ويضيف ان الفراغ الذي احدثته الرأسمالية المتوحشة في المجتمع ومعها الاحزاب الشمولية ، هذا الفراغ لابد أن يقع ردمه من قبل القوى العلمانية : " لقد كنت دوما أردد بأنه على المثقفين أن ينهضوا كل من جهته لفرض حقهم في تناول الواقع تناولا تحليليا وتأويله بما يضمن كسر طوق الاحتكار الذي تفرضه مؤسسات البحث التابعة للدول الرأسمالية.

ويشير طارق علي إلى ان الخدمات الطبية تعد حقا من حقوق الإنسان، وهذا يعني أن لكل إنسان الحق في الرعاية الصحية التي هو في حاجة إليها. ويتساءل : لماذا لا نقول إن هذه الخدمات، هي التزام اجتماعي ينتج عن العيش في مجتمع مع بعضنا بعضا؟ من أجل فرض إجماع شعبي على مثل هذه الفكرة، يجب على كل الحكومات العمل على ان يفهم جميع المواطنين بأننا نريد العيش في عالم لا ينكر فيه أي منا الرعاية الصحية لأي واحد منا، سواء كان يعيش في دولة غنية او فقيرة .. ولهذا يجد طارق علي ان علينا ان :" نؤسس لواقع اجتماعي واقتصادي وسياسي ايضا يكون فيه من غير المقبول اخلاقيا وانسانيا ، أن يتمكن البعض من الوصول إلى لقاح يمكن أن ينقذ حياتهم ، بينما يحرم الآخرون منه على أساس أنهم لا يستطيعون الدفع أو لا يملكون عقد تأمين من شأنه أن يدفع بدلا عنهم " ..ويعترف ان مثل هذه الفوارق موجودة اليوم اكثر مما كانت في الازمنة السابقة وتحولت الى شيء " ضخم لا يمكن انكاره " ، ويضيف : " نحن تعيش اليوم في عالم مشكوك في قدرته على تجاوز المحن اذا ما اصر على ان لا يغادر اوهام الماضي " .