مقالات نجيب محفوظ الأولى.. بالإنجليزية..كُتبت كلها ما عدا مقالا واحدا في ثلاثينات القرن الماضي

مقالات نجيب محفوظ الأولى.. بالإنجليزية..كُتبت كلها ما عدا مقالا واحدا في ثلاثينات القرن الماضي

د. ماهر شفيق فريد

كثيرة هي روايات نجيب محفوظ وقصصه القصيرة التي ترجمت إلى اللغة الإنجليزية وغيرها من اللغات. لكن القارئ الأجنبي قد ظل دائما يجهل جانبا من إنتاجه، وهو المقالات التي كتبها في مطلع حياته، ولم تنشر في القاهرة إلا في عام 2003 تحت عنوان «حول الأدب والفلسفة»، واليوم تصدر هذه المقالات مترجمة إلى الإنجليزية بقلم آران بيرن (الناشر: مكتبة جنجكو، لندن 2016، 154 صفحة).

يضم الكتاب إحدى وعشرين مقالة أغلبها فلسفي مثل: تطور الفكر الفلسفي قبل سقراط، وفلسفة سقراط وأفلاطون، ومعنى الفلسفة، ونظريات العقل. وهناك مقالات في علم النفس تتناول الحب والدافع الجنسي، واتجاهات علم النفس ومناهجه قديما وحديثا، وحياة الحيوان، والحواس والإدراك الحسي، وهناك مقالات أدبية عن أنطون تشيخوف، والعقاد وطه حسين وسلامة موسى، واللغة، وكتاب سيد قطب «التصوير الفني في القرآن». فضلا عن مقالات عن المرأة في الحياة العامة، وأم كلثوم، وزكريا أحمد، والاشتراكية.

نشرت هذه المقالات في ثلاثينات القرن الماضي (باستثناء مقالة واحدة مؤرخة في أبريل (نيسان) 1945) في عدد من الصحف والمجلات مثل «المجلة الجديدة» التي كان يصدرها المفكر التقدمي سلامة موسى، و«السياسة الأسبوعية» و«المعرفة» و«الأيام» و«الرسالة». والمقالات قصيرة لا يزيد أطولها عن أربع عشرة صفحة، بينما لاتتجاوز إحداها الصفحتين. وقد نشرها محفوظ عقب حصوله على الليسانس من قسم الفلسفة بكلية الآداب، جامعة القاهرة، في عام 1934 حين كان في مطلع حياته حائرا بين الأدب والفلسفة وهي حيرة حسمها بعد ذلك بزمن قصير حين قرر أن يكرس حياته لفن الرواية والقصة القصيرة. وقد كتب الدكتور رشيد العناني - أستاذ الأدب العربي الحديث بجامعة إكستر البريطانية والمتخصص البارز في أدب محفوظ - مقدمة للكتاب تضع هذه المقالات في سياقها التاريخي والثقافي. ويقر العناني - بأمانة محمودة - بأن هذه المقالات ضئيلة القيمة في حد ذاتها فهي لا تخرج عن نطاق التعريف العام بموضوعاتها ولكنها تكتسب أهميتها من الضوء الذي تلقيه على اهتمامات محفوظ الباكرة وكيف تبلورت في أعماله القصصية اللاحقة. ومن الغريب - كما يلاحظ العناني - أنها تخلو خلوا تاما من أي إشارة إلى فلاسفة العرب والمسلمين مثل الكندي والفارابي وابن سينا وإخوان الصفا وابن عربي وابن رشد. وتزداد غرابة هذه الظاهرة حين نتذكر أن محفوظ كان من تلاميذ الشيخ مصطفى عبد الرازق صاحب الكتاب الرائد «تمهيد لتاريخ الفلسفة الإسلامية» (1944) وأن محفوظ ذاته فكر في أن يسجل رسالة للماجستير تحت إشراف هذا الأستاذ موضوعها «مفهوم الجمال في الفلسفة الإسلامية».

هل لي أن أضيف أن في المقالات فجوات أخرى لافتة. ففي مقالته عن «علم النفس: اتجاهاته ومناهجه قديما وحديثا» (مارس «آذار» 1935) لا يذكر محفوظ سيغموند فرويد، مؤسس التحليل النفسي، إلا بسطر واحد، مع أن فرويد كان قد نشر حتى ذلك الحين أغلب أعماله المهمة التي تجعل منه علامة طريق لا يمكن تجاهلها. ورواية محفوظ «السراب» تدين بدين واضح لمفهوم فرويد عن عقدة أوديب.

ويتوقف محفوظ عند الفلسفة الإغريقية وأعلامها مثل هيرقليطس فيلسوف التغير القائل إنك لا تضع قدميك في النهر نفسه مرتين، وطاليس الذي عد الماء أصل كل شيء، وفيثاغورس فيلسوف العدد، وأنباذوقليس القائل إن المادة هي مصدر الكينونة، وممثلي الرواقية والأبيقورية. وعلى قمة هؤلاء جميعا يأتي سقراط وأفلاطون وأرسطو الذين أرسوا أسس الفكر الغربي. ومن الفلاسفة المحدثين يتوقف محفوظ عند برغسون الفرنسي فيلسوف التطور الخلاق والوثبة الحيوية، ووليم جيمز فيلسوف البراغماتية الأميركية، وعلماء الاجتماع مثل دوركايم وغوستاف لوبون. ويبقى الكتاب مهما - كما ذكرت - لأنه يحمل بذور اهتمامات محفوظ الفكرية والنفسية والاجتماعية التي آتت ثمارها في إبداعه القصصي. إن تأملات محفوظ الفلسفية تذكرنا بأزمة كمال عبد الجواد الفكرية في الثلاثية، ومناقشات الأصدقاء من طلبة الجامعة في «القاهرة الجديدة»، والترجح بين الآيديولوجيات المختلفة من أقصى اليمين إلى أقصى اليسار في «السكرية» و«قلب الليل» وغيرها. وتكشف المقالات عن تعاطف محفوظ منذ فترة باكرة مع الفكر الاشتراكي وإيمانه بتحرير المرأة ودورها الفعال في المجتمع. كذلك تلقي الضوء على دينه لثلاثة من كبار مفكري النصف الأول من القرن العشرين: عباس محمود العقاد وطه حسين وسلامة موسى. يسمي محفوظ الأول: روح النهضة الأدبية، والثاني عقلها، والثالث إرادتها. وقد كتب آران بيرن - مترجم الكتاب - تصديرا قصيرا أشار فيه إلى بعض الصعوبات التي اعترضته أثناء الترجمة، منها مثلا أن محفوظ يذكر فلاسفة غربيين كثيرين بألقابهم من دون أن يذكر اسمهم الأول مما يجعل من الصعب التعرف على الفيلسوف المقصود، خصوصا أن أغلبهم ليس مشهورا ولا يكاد يذكره أحد اليوم. ويصوب المترجم لمحفوظ بعض أخطاء وقع فيها كاتبنا: يخطئ محفوظ مثلا في إيراد تاريخ ميلاد تشيخوف، وينسب الفيلسوفين الفرنسيين بسكال وديكارت إلى القرن السادس عشر، والصواب أنهما من القرن السابع عشر.

على أن الكتاب - وإن كان إضافة قيمة إلى مجال الترجمة - يعيبه عدد من الأخطاء الطباعية يختل معها بناء الجمل نحويا أو تشوه المعنى. ترد هذه الأخطاء في الصفحات: 2. 14. 19. 57، 66. 107. 124، 126، 131، 132، 133. 141، 143. فلعل المترجم (وهو مترجم قدير يستحق الثناء) يصوب هذه الأغلاط في طبعة قادمة.