في مجلس الدفتري ببغداد سنة 1939..الزهاوي يتحدث عن طرائف العهد التركي في العراق

في مجلس الدفتري ببغداد سنة 1939..الزهاوي يتحدث عن طرائف العهد التركي في العراق

احمد حسن الزيات

حدثني المرحوم الزهاوي. . .
تركية القديمة - غفر الله لها - كانت في دول الأرض معنى من معاني الإرهاب حروف لفظه السُّم والَيُّم والسجن والسيف والسوط! جمعت في يدها القوية أطراف الشرق والغرب، ثم أدارت حول تاجها الرهيب هالة من خلافة الرسول فعنت لجلالها الوجوه، وخشعت لسلطانها الأفئدة؛ ولكنها لم تستطع أن تثبت ملكها بقوة الروح وبراعة الذهن وعبقرية البيان كما فعل العرب،

فظلت واقفة أمام شعوبها الثائرة عابسة الوجه معقودة العنق منشورة الشارب مشهورة السيف، فحرمها ذلك الموقفُ نصيبها من طمأنينة السلم ومدينة العلم ونعمة الثقافة. وكان ولاتها على الأمصار الخاضعة يحكمون الناس بهذه العقلية الجهول، فيظهرون الأبهة وينشرون الرهبة ويحصدون الأموال والأنفس بالضرائب والرُّشى والمصادرة والقتل. فإذا طالت الولاية واكتظ الوالي ورضى (المابين) وأراد الباشا أن يفكر في الدين أو في العلم أو في الإصلاح دل على فهم بليد وغفلة عجيبة!

كنا ذات يوم نتحدث في هذا وفيما جره على الأمة العربية من الجهل والذل والفقر ونحن جلوس في ندوة السيد صبحي الدفتري محافظ بغداد يومئذ؛ وهي ندوة تقوم في داره المضياف ضحى يوم الجمعة من كل أسبوع فيندو إليها الوزراء والزعماء والأدباء والقادة، فيكون لكل طائفة منهم حلقة وحديث. ولكن الزهاوي إذا تكلم أصغت إليه الدار وتحلقت علية الندوة؛ لأن جميلاً كان آية الله في فكاهة الطبع وظرف المحاضرة وحلاوة الدعابة ورقة العبث. وكان له في إلقاء النادرة لهجة وإشارة وهيئة لا يبرح سامعها مستطار اللب نشوان المشاعر من غرابة ما يرى وطرافة ما يسمع

كان الحديث أول ما بدأ دائراً بيني وبين السيد ناجي الأصيل على أن الحرب وأوزارها استقلت بمواهب الترك فلم تدع لهم كفاية للسياسة والثقافة؛ وأخذنا نضرب الأمثال على ذلك مما جرى في العراق ومصر. وكان المرحوم الزهاوي بجانبي، ولكنه كان مشغول الأذُن بكلمة منافقة في العقاد والرصافي أُلقيت إليه في خفوت وخبث. فلما تشربها سمعه وأجاز عليها القائل ببسمة وهزة وسيكارة، أقبل علينا فسمع طرفاً من الحديث نبض له نابضة فقال: هُوهُوه! إذا حدثتك مولانا عن حمق الولاة من الترك لا ينتهي الحديث ولا ينقض العجب!

ثم أرسل نكتته الحاضرة وضحك ضحكته الساخرة فتنبه المجلس إلى أن الزهاوي سيتحدث، فسكت المتكلم وأصغي المستمع وتهيأت النفوس للسرور الشديد والضحك المتصل؛ وأخذ الشاعر يقول:

أرسلت إلينا الدولة العلية بعد جفاف الريق والمداد من شكوى الجهل والفساد، والياً يسير بالعراق في طريق العمارة والعلم، فقابله البغداديون باحتفال عظيم وفرح شامل. وكان لي يومئذ يد في إدارة التعليم كما تريده الدولة، فقال لي الوالي ذات يوم: أنا نريد أن ننشئ مدرسة للبنات فابحثوا عن دار تصلح أن تكون لها مكاناً. وكان تعليم البنت في ذلك العهد أملاً من آمال المصلحين تتقارع حوله الأقلام بالحجج في غير طائل. فقلنا إن الرجل رحب الباع في الإصلاح، ودللناه على جملة من الدور الكبيرة الصالحة، فكان كلما دخل داراً قال إن الأبصار تجرح البنات من هنا، والأسماع تسرق الأصوات من هناك؛ حتى لم يدع في بغداد داراً إلا عابها هذا العيب من طريق التوهم أو التخيل! وظهر من تصرف الرجل أن به بلاهة وغفلة، فخطر لي أن أتداعب عليه لأكشف حاله للناس فلا يستنيموا لحكمه. فقلت له: أفندم! لم يبق في البلد كله إلا مكان واحد أرجو أن يقع من هواك موقع الرضى. فقال: امض بنا إليه. فذهبت به إلى (منارة سوق الغزل) وصعدنا فوقها، فلم تكد قدمه تستقر على شرفتها العليا، وعينه تقع على سطوح بغداد وهي متطامنة تحت المأذنة العالية، حتى شهق من الفرح وصاح بملء فيه: نعم! نعم! هذا هو المكان المناسب!

ثم نزل وفي نيته أن يتخذ الأهبة من المقاعد والأدراج ليفتتح المدرسة! فقلت له: مولانا! لا بد أن تجمع الناس قبل الافتتاح لتقنعهم بتعليم بناتهم فإنهم سيئو الرأي في ذلك التعليم. ونجاح الأمر موقوف على أن يعتقدوا فيك التقى والورع. وسأدلك على أقرب الطرق لتحقيق هذا الاعتقاد:

إذا اجتمع الناس واكتظ بهم الديوان جلست أنت في الصدر، وجلس عن يمينك وعن يسارك رجال المعارف؛ ثم تشعل (شبقك) وتأمر كلا منهم أن يفعل فعلك؛ ثم تبتدئ فتذكر الله بصوت موقَّع على ضربات كفي وأنت تُميل رأسك من الشمال إلى اليمين تارة، ومن الخلف إلى الأمام تارة، وأنا والحافُّون من حولك نتابعك في كل كلمة وفي كل حركة. ثم حاول أن تأخذك الحال ويستخفك الذكر؛ فكلما أزبد الفم وأرعد الصوت وتشنج الجسم وهاج الدم، كان ذلك أحمل للناس على أن يعتقدوا فيك الولاية فتقودهم صاغرين إلى ما تريد

وصدق الوالي كل ما قلته له تصديقاً لا تتخالجه فيه شبهة. وجاء يوم الجمع واحتشد الأعيان والوجوه يسمعون ماذا يقول الوالي. وجلس الباشا وأنا بجانبه وشيوخ المعارف من حوله، وأمر فأشعلت (الغلايين) الطويلة، وأخذ يذكر ويترنح وأنا أرسم له، والشيوخ يذكرون معه. ثم غمزته بعد حين فتهور و (تطور) وأرغى. وتظاهرت أنا بجذبة الوجد وسكرة التجلي فقرعت غليونه بغليوني، ثم أخذت بلحيته البيضاء ورأسه الأصلع، ففعل بي مثل ما فعلت به، وأخذنا نتدحرج على البساط، فمرة أكون فوقه، ومرة يكون فوقي، والشيوخ يعجون بالذكر، والناس يضجون بالضحك، وأنا والوالي قد ملكتنا حميا الولاية فدخلنا في صراع عنيف لم يخرجنا منه إلا انقطاع النفَس. فجلسنا مسترخيين نلهث من الإعياء وكلانا ينظر إلى صاحبه نظر الديك المنتوف إلى الديك المهيض. وذلك يا مولانا هو الوالي الذي اختير لتعليم الجاهل وتصحيح المريض!

م . الرسالة ــ العدد 314 في 10/ 7/ 1939