سلافوي جيجيك: الفلسفة حين تكون تنبؤية

سلافوي جيجيك: الفلسفة حين تكون تنبؤية

د. نادية هناوي

سلافوي جيجيك فيلسوف سلوفيني عرف بكثرة التأليف وهو يواكب مختلف متغيرات الراهن العالمي حتى وُصف بأنه أخطر الفلاسفة المعاصرين في الغرب، فكتب عن أحداث الحادي عشر من ايلول (سبتمبر) 2001 والاحتلال الأمريكي للعراق 2003 والانهيار المالي عام 2008 وآخر ما كتبه كان مطلع هذا العام وعنوانه “الجائحة: كوفيد-19 يهز العالم”.

وعلى الرغم من شهرة هذا الفيلسوف التي كونتها طروحاته الجريئة ومنظوراته غير التقليدية وأفكاره الساخرة الاستفزازية؛ فإنه ما زال في نظر بعض الكتّاب والدارسين مجرد ناقد ثقافي أو ايديولوجي متقاعد خرج عن الخدمة أو مثقف متعال ليس له سوى طرح الأسئلة، راسمين له صورة ضبابية غير دقيقة وهم يقدمون تصورات ناقصة غير مكتملة، واصفين إياه بخصال تشوه صورته، مسقطين عليه رؤى جاهزة تصلح لكل مقام ومقال. وهذا هو شأن الكتابات الانشائية التي يشوبها كثير من القصور، ومن ثم يتم التجني على جيجيك وفكره من حيث يدري هؤلاء الكتّاب أو لا يدرون.

وقد نعتذر لهؤلاء أن كثيراً من كتب هذا الفيلسوف لم تترجم إلى اللغة العربية بعد، هذا فضلا عن شائكيته الفلسفية التي تتأتى من كونها أبعد ما تكون عن الحداثة الهابرماسية وأنبذ ما تكون للبراغماتية والتراندستالية. وبسبب ذلك كله استطاع جيجيك أن يحفر اسمه بقوة في عالم الفلسفة ما بعد الحداثية.

ولو كان سلافوي جيجيك متقوقعاً في منصة النقد كما يرى بعضهم، ممارسا (النقد الثقافي) بفاعلية كشف وتعرية الأنساق المضمرة، وكان الفكر الجدلي عنده مجرد علاقة ومجال ووظيفته لا تتعدى التحليل النقدي، لما اختلف عن أي ناقد ينقد التاريخ والنظام والهيمنة.

ولا مناص من القول إن الاتساعية الفكرية والعمق المعرفي يجعلان الفيلسوف أي فيلسوف أشكس من أن يتطامن مع ايديولوجيا بعينها وأصعب من أن يسلم قياده لنموذج فلسفي وحيد سبقه أو يرهن عقله بتجربة منظر مجايل له لم ينغمس في عالم الفلسفة كانغماسه هو فيها.

ولكي لا يكون كلامنا عن سلافوي جيجيك عائما بلا استنادات قرائية أو فوضوياً بلا محطات تؤشر على حقيقة ما طرحه من آراء؛ فإننا سنركز القول على كتابه “بداية كمأساة وأخرى كمهزلة” بترجمة أماني لازار والصادر عن دار طوى للثقافة والنشر بلندن عام 2015 وفيه تتجلى شخصية جيجيك المعرفية وتتضح هويته الفلسفية وهو يمارس التفكير كعملية ذهنية هي أوسع مجالاً من التحليل وأكثر جرأةً وأثراً من النقد وأشمل مدى وأعقد آفاقا من مجرد الفحص والمراجعة. وهو القائل تأثراً بفيلسوف التكرار (كيركيجارد) “إننا نحن البشر ليس بإمكاننا أن نكون واثقين من أننا نؤمن بشكل جوهري” (الكتاب، ص7) .

ولا خلاف في أننا نتجنى على جيجيك حين نراه شيوعياً ولو كان كذلك لما افتتح كتابه أعلاه بالمقولة المعادية للشيوعية “اليوم بعد مأساة شمولية القرن العشرين لا يمكن لأي كلام عن العودة إلى الشيوعية إلا أن يكون هزليا” ص5 فالشيوعية بحسب جيجيك نظام قديم، وسببُ سقوطها المأساوي خطأ تاريخي عالمي، ص6.

ولعل أهم صورة تتجلى لجيجيك كفيلسوف أنه غير متطامن مع الشيوعية ولا قابل بالاحتواء الرأسمالي بل هو ضد الشمولية الشيوعية والإمبريالية الأمريكية. وهو القائل تحت عنوان استفزازي (الشيوعية مجدداً): “إن عصر الطوباويات الايديولوجية قد تخطيناه” ص120.

ولا يعني اكتراثه بمقوله ماركس وإشارته إلى فوكاياما أنه متحزب ومنتم؛ وإنما هي العقلانية الفكرية التي تجعله مثلا وهو بصدد الفكرة الهيجلية التي تقول إن التاريخ يعيد نفسه فصححها ماركس مضيفا لها “لكن بطريقتين مختلفتين: الأولى كمأساة والثانية كمهزلة”، وجيجيك يرى في مفارقات التاريخ ما يخرق البديهيات المقبولة ليغدو التاريخ كوميديا.

وما يراه جيجيك هو أن نؤمن أننا نتخيل وليس أن نتخيل أننا نؤمن، مما وقع فيه فوكوياما الذي تخيل مؤمنا أن انهيار جدار برلين سيعلن يوتوبيا التسعينيات التي فيها تكون نهاية التاريخ، لتفوز الليبرالية الديمقراطية التي يمقتها جيجيك كونها صنعت مواطنين عالميين يعيشون في الخفاء بمعزل عن الناس فائقي الثراء لا في الولايات المتحدة وحدها بل في الصين أيضا. ففي شنغهاي مثلا مدينة هي نسخة من بلدة انكليزية تعيش كمنطقة معزولة لأهلها ايديولوجيتهم المتخيلة كطبقات عليا منفصلة عن طبقات المجتمع الأخرى.

وتفنيد جيجيك ليوتوبيا فوكوياما والليبرالية الديمقراطية يتضح في رؤيته لهما كنهايات هوليودية، اتضحت مع عامي 2001 و 2008 لتكون في الأول بداية الأزمة وفي الآخر بداية المأساة.

والسؤال الإشكالي عند جيجيك ليس سؤال الحياة والموت وإنما نحن وما ستكون عليه حياتنا المعاصرة، مفترضا أننا بدلا من أن نسأل هل ما تزال الشيوعية موضوعية علينا أن نسأل: كيف تبدو أزماتنا من وجهة نظر الشيوعية في مجتمع ما بعد حداثي يصفه بـ(مجتمع الحظر)؟

وما يرجوه جيجيك هو أن يتعلم اليسار الجديد من فشل السياسات اليسارية في القرن العشرين، ناقلا عن لاكان مقولته (مسموح أن يعلم) أي نعلم عن الشيوعية لنتحرك بإخلاص باتجاه لا شيوعي بينما ليس مسموحا أن نرى كما في الليبرالية الإباحية.

ويمقت جيجيك الايديولوجيا لأنها أولا “تجعلنا مجبرين على خياراتنا من دون أن نملك حق التصرف” ص19، وثانيا أنها تصيرنا على طريقة المثل (لا تتكلم.. افعل) حتى صارت مشكلتنا أننا فعلنا كثيرا، فتدخلنا في الطبيعة ودمرنا البيئة وربما حان الوقت للتراجع ونقول الشيء المناسب، ص20.

ولأن جيجيك خارج دائرة الأدلجة والتحزب، يرى الاشتراكية نافعة كما يرى الرأسمالية فاعلية، وذلك من باب “أن جعل نظام البنوك اشتراكيا أمر مقبول يخدم إنقاذ الرأسمالية فالاشتراكية لا تعد سيئة عندما تخدم استقرار الرأسمالية. لاحظ التناظر مع الصين اليوم بالطريقة نفسها يستخدم الشيوعيون الصينيون الرأسمالية لفرض نظامهم الاشتراكي”، ص24.

وكيف يكون جيجيك فيتشيا ومتعاليا وهو يمتلك رؤى تنبوئية هي نتاج قراءته الدقيقة للواقع الحاضر مؤكدا “أننا أكثر من أي وقت مضى مطوقون بالإيديولوجيا في شكل تبريرات بيروقراطية” وأن استراتيجية استغلال طبقة النخبة العليا للطبقة الكادحة هي سبب الانهيار المالي عام 2008. والحل عنده هو الحياد الايديولوجي الذي فيه تكون النجاة في عدم تدخل الدولة عبر ما سماه (مبدأ الصدمة) الذي قد يحل الإشكال المالي أو الأزمة المالية الكبرى بوصفه علاجا غير نمطي به نتدارك مشاكلنا كالحرب على الإرهاب والبحث عن بدائل صديقة للبيئة ونزع السلاح النووي والاحتباس الحراري وغيرها.

هذه الإشكاليات هي بمثابة موضوعات سامة أو سُمية ـ بحسب جيجيك، وأن الحجر عليها أو تطبيعها هو الذي ينبغي أن يكون الهدف النهائي لكل القواعد التي تحكم علاقاتنا الشخصية، مما يسميه (الرأسمالية الثقافية)، فـ”الخوف من الآخر السام هو الوجه الآخر لتعاطفنا مع الآخر المحول إلى زميل”، ص82.

ولاقتناع جيجيك أن رأس المال هو حقيقة حياتنا، تنبأ بأن الكارثة ستكون بيئية وفيها ستدمر البشرية نفسها ذاتيا مما كانت قد توقعته بعض الأديان ومنها المسيحية وأكدته ثورات نادت بالعدالة والمساواة كالقرامطة والزنج وما أثاره أيضا الرومانسيون في العصر الجديد.

ومن سيناريوهات الانهيار البيئي ما ذكره جيجيك عن قيام مجموعة بحثية من كامبردج عام 2008 بدراسة وباء السل في أوروبا الشرقية خلال العقود القليلة الأخيرة، وبعد تحليل البيانات وجد الباحثون ارتباطا بين قروض أعطيت لهذه الحالات من قبل صندوق النقد الدولي وبين الارتفاع في حالات الإصابة بالسل، فعندما توقفت هذه القروض تراجع الوباء.

وتفسير هذا الارتباط الغريب ظاهريا بسيط ـ كما يرى جيجيك ـ فقد كان الشرط لمنح القروض هو تقديم ” التزام مالي” هكذا كانت الضحية الأولى للاجراءات المالية هي الصحة نفسها (ص126) ويستدرك جيجيك ساخرا “هذه هي العقلانية الرأسمالية!!”.

ومن سيناريوهات الكارثة البيئية الانهيار الاقتصادي الذي لن ينفع معه مبدأ الصدمة كما لن تفيد الرأسمالية التقنية لأنها نظام بلا ذرائع فلسفية، لذا ستعيد البيئة خلق شيوعية من النمط المالي المعادي للرأسمالية التي نصفها الآخر مركب من يوتوبيا الوثنية وعبادة الطبيعة.

وإذا كان الانهيار المالي كما يراه جيجيك صدمة (اليقظة من الحلم)، فهل تكون الجائحة (كورونا) هي حلم اليقظة؟ هذا الحلم الذي بسببه جعل النظام المعولم أذهاننا منومة تنويماً مغناطيسياً وعقلنا خاملا بلا إيديولوجيا، نعيش واقعنا افتراضيا بالعنف الرمزي. ذلك بالضبط ما سيتناوله سلافوي جيجيك فلسفياً في كتابه الجديد “الجائحة: كوفيد-19 تهز العالم”.