هوسة أهاليها المثيرة سنة 1953: (هذا الكاتل غازي اشلون اتأمن تمشي اوياه )

هوسة أهاليها المثيرة سنة 1953: (هذا الكاتل غازي اشلون اتأمن تمشي اوياه )

راغب رزيج العقابي

في عام 1953م زار ملك العراق فيصل الثاني مدينة الرفاعي برفقة خاله الامير عبد الاله الوصي على عرش العراق ليمضي يوم جميل وليلة هانئة في ضيافة الشيخ موحان الخير الله و أولاده الكرام .

حدثت هذه الزيارة في نفس السنة التي توج فيها فيصل الثاني ملكا على العراق بعد بلوغه سن 18 عام عقب وفاة والده الملك غازي في حادث سيارة عام 1939م وال اليه عرش العراق وهو طفل صغير في الرابعة من عمره واصبح خاله الامير عبد الاله وصيا على هذا العرش .

تعتبر هذه الزيارة هي الثانية لشخصية مهمة وكبيرة في حكومة المملكة العراقية تزور مدينة الرفاعي بعد الزيارة التي قام بها رئيس الوزراء الاسبق ياسين الهاشمي الى هذه المدينة عام 1935م , والهاشمي هو صاحب مقترح تغيرأسم القضاء الى (قضاء الرفاعي ) بعدما كان يسمى انذاك بأسم المدينة القديم ( الكرادي ) أشتقاقا وتكريما للامام الصوفي السيد احمد الرفاعي الموجود ضريحه المقدس الى الشرق منها في منتصف الطريق العام الرابط بين مدينة الرفاعي ومدينة العمارة .

خرجت مدينة الرفاعي بصوبيها الشويلات وبني ركاب عن بكرة ابيها مستقبلة ومرحبة بالزائر القادم اليها الملك فيصل الثاني بن الملك غازي وهم الذين أحبوه حبا فطريا كحبهم لوالده الراحل , وكانوا يعتبرون الملك غازي ملكا وطنيا مخلصا لشعبه ووطنه ولم يحابي الانكليز ولم يخضع لهم وما عرفوا عن ميوله العربيه والوطنيه المناهضه للنفوذ البريطاني المستشري على ارض العراق والمعطل لبناء الدوله العراقية الفتية والناهب لثروات العراق , لذلك اعتقد الكثير من العراقيين بأن الانكليز هم الذين تأمروا على الملك وقتلوه في حادث السيارة الغامض في 14 أيلول عام 1939م وبالتعاون مع الامير عبد الاله ليستأثر بالسلطه .

وكم كانت شدة الحزن والتأثر عند وصول خبر وفاة الملك غازي عند أهل هذه المدينة , ففي اليوم الثاني من وفاة الملك وبعد اعلان الحكومة العراقية الرواية الرسمية لسبب الوفاة ( نتيجة لسقوط عمود الكهرباء على سيارة الملك التي ارتطمت به قرب الجسر ) لم يصدق ابناء مدينة الرفاعي هذه الرواية عن وفاة الملك ولم يقتنعوا بها لانهم يعتقدون بأن الانكليزهم الذين قتلوه ويقولون بأنهم سمعوا اخبار وفاته الحقيقية بعد ساعات من مقتله , لذلك خرجوا في اليوم الثاني في مواكب حزن وعزاء طافت شوارع مدينتهم ( أشبه بالمواكب الحسينية ) حاملين الرايات السوداء والاعلام العراقية المنكسة مرددين هتافات وشعارات تسخر من رواية الحكومة التي تناقض ما سمعوه يوم أمس من اخبار حول مقتله هاتفين ومرددين بعض الشعارات والعبارات الساخرة منها ( طاح العمود من الجسر وانكلبت السيارة .... وملك غازي من أمس جتنه أخباره ) بينما أنطلقت في اليوم الاول و الساعات الاولى لسماع خبر وفاة الملك تظاهرة نسوية عفوية عارمة لنساء الشرطة في هذه المدينة والتحق بها عدد كبير من النساء الاخريات تقودها المرأة البارعة ( أم جبار ) زوجة الشرطي ( رسن ) متجهة نحو سراي الحكومة حيث يتواجد أزواجهن الشرطة وكانت تسميتهم أنذاك ( البوليس ) , صارخات باكيات لاطمات على موت الملك و نصبن له مأتما نسائيا قرب السراي وزاد من ذلك الحزن والتأثر ما أشيع من دعايات تقول بأن مبلغ ( الربيه ) التي منحها الملك غازي لنساء الشرطة بعد تنصيبه ملكا على العراق , تضاف شهريا الى رواتب ازواجهن الشرطة ( اشبه بمخصصات الزوجية الحالى ) بأنها سوف تقطع بعد موت الملك , وتلهب حماسهن أم جبار بقصائد وارجوزات حزن تزيدهن بكاءا وعويلا وشدة في اللطم على الصدور وهي تردد لهن ( دكن حيل نسوان البوليسيه .... غازي مات وانكطعت الربيه ) .... والروبية أو( الربيه ) كما يسمونها هي ( عملة نقدية هندية مصنوعة من الفضة متداولة بصورة رسمية في العراق منذ دخول الانكليز عام 1917م حتى بعد سك العملة الوطنية العراقية بسنوات قليلة .

ولطالما ظل أهالي مدينة الرفاعي يحملون حقدا على الانكليز ولم تمحى من ذاكرتهم اعمالهم المشينة معهم وما فعلوه بهم يوم اغارت الطائرات البريطانية من نوع (هوكر هنتر ) عام 1920م على غرب مدينتهم صوب عشائر بني ركاب وقصفت قرية (الشيخ مزعل الحمادي ) شيخ عموم بني ركاب ومنزله ومضيفه فتصدى لها ابناء العشائرواطلقوا عليها الرصاص واصابوا احداها وأدت هذا الغارات الى خسائر بشرية بسكان القرية ومن بينهم ( الشيخه موزه الحمادي ) شقيقة الشيخ مزعل الحمادي.

لذلك كثر كره أهالي هذه المدينة للانكليز ولرجال الحكومية المتعاونين معهم وظهر ذلك جليا مع الامير عبد الاله أثناء تلك الزيارة ففي الوقت الذي توشحت مدينة الرفاعي بأحلى حللها وظهرت في اجمل صورة لها فرحة بقدوم الملك فيصل الثاني ونصبت ( اقواس النصر ) في مداخل المدينة بالوانها الزاهية وانتشرت على جانيتها المصابيح الكهربائية الملونة وفوقها اعلام عراقية مرفرفة ليمر من تحتها موكب الملك . وزينت اغصان الاشجار اليانعة وسعف النخيل واجهة الدوائر الرسمية ودورالاهالي السكنية والمحلات والمقاهي ، ووضعت على جميع أعمدة الكهرباء على طول الشارع الرئيسي المؤدي الى قصر الشيخ موحان الخير الله حتى أصبح ذلك الشارع وكأنه غابة خضراء زاهية وعلقت اللافتات والصور على امتداد جدران هذا الشارع وفرش السجاد المحلي المصنوع من الصوف الخالص من مكان ترجل الملك من سيارته حتى مداخل القصر , وشق موكب الملك طريقة بصعوبة بالغة من بين الناس المستقبلين له والذين كادوا ان يرفعوا سيارة الملك عن الارض بأيديهم احتفاءا وترحيبا به وهم يهتفون ويهزجون ويتغنون بالملك بقصائدهم الشعبية الرائعة ويبدون مبايعتهم له وفرحتهم الكبيرة بقدومه , بينما كانت هناك قصائد واهازيج و( هوسات ) شعبية اخرى رددها بعض المستقبلين للملك والذي وصفوه بالطير الوديع ويحذرونه من خاله الامير عبد الاله والذي نعتوه بالثعلب الماكر الغادر ويطلبون من الملك بأن لايؤمن على نفسه من خاله هذا قاتل ابيه الملك غازي وعلت اصواتهم مرددة ( يطوير اتحذر من خالك ) وردد اخرون على مسامع الملك ( هذا الكاتل غازي اشلون اتأمن تمشي اوياه ) , واثار ذلك امتعاظ الامير عبدالاله وانكفائه داخل القصر بينما ظهر الملك باديا عليه الفرح والانشراح لحسن الاستقبال وشدة الترحيب , واطل بمفرده من شرفة القصر ليحي الجماهير المحتشدة امام القصر ملوحا بيديه للتسليم عليهم ( كما في الصورة ادناه ) وهم يستقبلونه بالهتافات والاهازيج المرحبه .

وامضى الملك ليلة هانئة في تلك المدينة بين مستقبليه ومضيفيه من ال خير الله اصحاب القصروالضيافة وبين المرحبين به والقادمين للتسليم عليه من وجهاء المدينة ورؤساء عشائر المنطقة وكبار موظفي الدولة وغادرها في اليوم الثاني مودعا بمثل ما استقبل به من حفاوة وتكريم .

ولم تمض على زيارة الملك سوى شهور قليلة حتى شاهد الناس نوع من الاعمار والبناء بدأ يعلو في هذه المدينة وخاصة في الشارع الرئيسي الذي مر به موكب الملك والمباشرة بتنفيذ مشاريع للدولة من ابنية حكومية ومدارس وغيرها ومن هذه الابنية مدرسة ذات طابقين في المكان الذي تجمع فيه المستقبلون للملك امام القصر والى القرب منها محكمة ضخمة اشبه ببنايات المحاكم الكبرى لا يوجد في ذلك الزمن مثيل لها في مدن المحافظة الاخرى , وليس بعيدا عنها وفي منتصف هذا الشارع شيد سراي الحكومة الكبير والذي ضم معظم دوائر الدولة بما فيها القائممقامية والشرطة والتجنيد والمالية والبلدية والنفوس , بعدما كانت هذه الدوائر تداوم في بيوت مستأجرة وشيدت أيضا اعدادية واسعة وكبيرة للبنين وغيرها من ابنية عديدة أخرى , لذلك فقد شهدت هذه المدينة ما لم تشهده من اعمار منذ تاريخ تأسيسها عام 1880 م حتى زيارة الملك لها عام 1953م وفي فترة قصيرة لا تتجاوز خمس سنوات منذ زيارته لها حتى مقتله عند قيام ثورة 14 تموز عام 1958م .