هدية إبراهيم جلال

هدية إبراهيم جلال

إنعام كجه جي

كان ستار الوندي طالباً في أكاديمية الفنون في بغداد، أوائل السبعينات، يتلقى كل شهر مصروفه من والده في كركوك. يذهب الأب إلى موقف سيارات الأجرة الذاهبة إلى العاصمة ويضع ثلاثة دنانير في يد أحد السائقين ويرجوه توصيل المبلغ إلى إبراهيم جلال، الأستاذ في الأكاديمية. يخشى أن يتسلم الولد النقود ويبذرها دفعة واحدة، أما الأستاذ فسيعطيه المصروف بالتقسيط، بحيث لا يأتي عليه آخر الشهر وهو مفلس. أي رخاء ذاك الذي كانت فيه الدنانير الثلاثة تبذيراً!

إبراهيم جلال، المولود في الأعظمية سنة 1924، ليس أستاذاً ورئيساً لقسم التمثيل. كان فناناً عملاقاً ترك بصمته على المسرح العراقي ونال التكريم في دمشق والقاهرة وتونس. درس المسرح في إيطاليا، والسينما في أميركا، وكان يدور وهو طفل، مع أستاذه حقي الشبلي، رائد فن التمثيل، ليقدما عروضاً في المقاهي والفضاءات الخالية. إن أي عتبة مرتفعة تصلح لأن تكون مسرحاً. ويمكن لأي حصيرة أن تستخدم كستارة. وبسبب التقاليد التي تمنع ظهور ربّات الخدور، كان الممثلون الرجال يقومون بالأدوار النسائية. لا غضاضة في أن يرتدي إبراهيم جلال فستان غادة الكاميليا أو باروكة كليوباترا.. ويروي ستار الوندي، الطالب الذي كان يتلقى بواسطته الدنانير الثلاثة، أنه وزميلتيه ربيعة وفخرية، أرادوا التعبير عن تقديرهم لأستاذهم إبراهيم جلال بمناسبة عيد ميلاده. سألوه عن الهدية التي يحب أن يتلقاها. كانوا يفكرون بعلبة بقلاوة أو باقة ورد بنصف دينار لا أكثر، لكنه فاجأهم بأنه يريد مغسلة للمطبخ. ولم يكن في مطبخ بيته سوى خرطوم يتدلى من الحنفية، تشرشر منه المياه، ووعاء من البلاستيك لغسل الصحون. إن مورده محدود ومسؤولياته العائلية كثيرة. كيف العمل وسعر «السينك» عدة دنانير؟ ذهب ستار إلى قريبه الذي يبيع المستلزمات المنزلية في دكان بشارع الكفاح. وقد باعهم الحوض الألمنيوم بسعر التكلفة وأرسل سمكرياً لينصبه في مطبخ إبراهيم جلال. وقد كافأهم أستاذهم باستكانات من الشاي المخدّر على المدفأة، مع قالب بسيط من كعكة عيد الميلاد، أعدتها زوجته الثانية التي كانت شاعرة تركمانية.

مطلع الخمسينات، التقى جلال بالممثل الكبير الآخر يوسف العاني. وأسسا معاً فرقة المسرح الحديث. ومن خلال تلك الفرقة تعرف البغداديون على التجارب المسرحية العالمية، وعلى أسلوب الإخراج الحديث الذي جاء به إبراهيم جلال. صار ارتياد المسرح تقليداً من التقاليد. جمهور من مختلف المستويات، يتمتّع ويصفّق لمسرحيات تبدو شعبية وبريئة لكنها محملة بالإشارات السياسية المغلفة بالكوميديا. واليوم، في عراق المليارات، يحاول بعض الطيبين إنقاذ الدار المتواضعة التي كانت مقراً للفرقة، في زقاق يفضي إلى شارع السعدون، لكن وزارة الثقافة تقول إنها لا تملك المبلغ اللازم لترميمها.

شارك إبراهيم جلال في فيلم «القاهرة - بغداد» للمخرج المصري أحمد بدرخان. وهو الفيلم الذي يعتبر باكورة السينما العراقية. ثم صار نقيباً للفنانين في أكثر من دورة. أخرج عشرات المسرحيات وظهر في كثير من الأفلام وكان حاضراً كفنار فارع فضي الشعر في الوسط الفني، يهتدي بنوره زملاؤه وطلابه. يسألونه عن أسرار أناقته فيدلهم على سوق الثياب المستعملة التي يجيد، بذوق الفنان، انتقاء أفضل ما فيها. وفي عمر متقدم، ظهر في فيلم «الأيام الطويلة»، للمخرج توفيق صالح، عن فترة شباب صدام حسين، وقام بدور خال البطل. وقد رأيت إبراهيم جلال، لآخر مرة، أواخر الثمانينات، يحضر مهرجان قرطاج للمسرح في العاصمة تونس. وكان صاخباً متدفقاً وسيماً كعادته، لكنه عاجز عن المشي، يستخدم كرسياً ذا عجلات يتناوب رفاقه الممثلون على دفعه، ويتنافسون في نيل الشرف. ولما عاتبه بعضهم لقبوله تجسيد تلك الشخصية الإشكالية في «الأيام الطويلة»، أجاب بكل ثقة: «أنا ممثل. مهمتي أن أتقمص مختلف الأدوار. أؤدي اليوم دور إمبراطور وأؤدي في الغد دور....».

عن الشرق الاوسط