جماليات إبراهيم جلال

جماليات إبراهيم جلال

د. عقيل مهدي يوسف

دراسة ابراهيم جلال لفن السينما في ايطاليا (1951-1955) تكشف لنا السر الذي يكمن وراء غنى مخيلته الفنية، ومرونتها واستيعابها لتقنيات عدة في التعامل مع الفراغ والزمن والكتل والقوى..الخ.

جعل من عروض جلال المسرحية ناضجة في الفن، ومبتعدة عن تلك النصوص التي كانت في معظمها تنقل الى خشبة المسرح لتقرأ وتسرد بشكل تراكمي بلا صور عضوية يتطلبها الاخراج المسرحي، وبالطبع ما كان فنانونا حينئذ، ليجدوا حلولا اخراجية في فترة كانت تدرج فيها الثقافة والفن بواجهات ثانوية.

لقد اعجب به استاذه (شاروف الايطالي) حينما فسر مقطوعة (هملت) وهو يتساءل فلسفيا عن كينونته بالطريقة الآتية يلقي (جلال) كلمة: "كائن انا؟" وهو في طريقه الى الاضطجاع ولكنه يصرف ذهنه بعد ذلك، وينهض فجأة ليقول "أم غير كائن"، واعجاب الاستاذ يتأتى من محاولة تلميذه ايجاد علاقة ذهنية ووجدانية لدى هملت في موقفه ذاك.

ويمكن القول انه استكمل شروط علوم المسرح بعد ان درسها في اميركا (1958-1963) وتوافر على الجوانب النظرية والتطبيقية وعلى ايدي اساتذة موسوعيين واكفاء، منهم الدكتور (رايخ) وهو متفلسف في المسرح ومصادره عباقرة الفن مثل: بيكاسو وراينهارت، وجورنلك، الذين ادخلوا مفهومات جديدة على الشكل الفني، وكذلك الاستاذ (ماكو) مؤلف الكتاب الشهير (الفن اعتقاد) ومنه تعلم (جلال) كل ما يخص موضوعه، معالجة سلوكية الممثل على الخشبة وتطويرها من حالتها الغريزية وجعلها حالة منظمة، مثقفة ومقنعة.. ومن الفعاليات الفنية التي مارسها في معهد الفن باميركا، تمثيله مع الممثلة (ليليان كيش) وهي من الممثلات الشهيرات وقد فازت مسرحية (الممر الى الهند) بجائزة الاوسكار مؤخرا بعد ان كان يلعب فيها الدور الرئيس، ومثل ايضا في مسرحية (قلبي في السماء العليا) لوليم سارويان، اما في الاخراج فانه قدم (بيت برناروالبا) للشاعر الاسباني لوركا و(المغنية الصلعاء) و(الدرس) ليونسكو و(بوتنيلا وتابعه ماني) لبرشت.

ان حساسية ابراهيم جلال الفنية ما انفكت تلتقط ملامح فنية وعلامات اخراجية فارقة ليس في ايطاليا واميركا فحسب، بل في كل مكان حل فيه ضيفا، لقد اعجبته (سيران ودي برجراك) لان المخرج (جينو جرفي) استخدم (خيال الظل) استخداما مؤثرا، وفي ايطاليا ايضا اعجب بـ(طرطوف) للمخرج نفسه حينما عالج تكويناته بحس تشكيلي متقن. وكذلك اعجب بتوظيف الديكور في مسرحية (يوليوس قيصر) للمخرج (فيتاريو كازنر). وفي امريكا دهش للديكور الذي اصبح ظهيرا للجمهور وليس اماميا كما كان ينبغي ان يكون، جاء هذا في عرض (الخال فانيا) لـ(تشيخوف) او تعبيرية (جارلس ماكو) في اخراجه لـ(القضية) لكافكا، واستخدام النماذج البشرية ذات الطباع، او في استخدام الممخرج نفسه عند اخراج (تاجر البندقية) للجسر الشهير المعروف بجسر دانتي كعلامة معبرة ودالة، او في استخدام الاسترجاع (فلاش- باك) ورسم المناظر على الخلفية (السايك) في مسرحية (فاوست) من اخراج رايخ، وهناك عروض عدة منها (روميو وجوليت) التي جعلها المخرج (زافرلي) كوميدية مضحكة، او اخراج (بن بيسون) في المانيا الشرقية لـ(الليلة الثانية عشرة) في طاشقند، وفي تقديم (ترويض الشرسة) التي طرحت فيها قضية تحرير المرأة بشكل تجديدي ملتزم.

والان، لنشر الى مفردات اللغة الاخراجية، وعناصرها لدى ابراهيم جلال، ان ابرز تلك القيم هو (التكوين) فهو نظام يحاكي ويعكس قوام الانسان، وحركتيه في خلق الفعل المستمر في الفضاء (غابة- صحراء- جبل- وادي). ان التغيير يكمن في انقطاع شجرة، اما في المسرح فان تغيير التكوين يتم وفق مقتضيات الطبيعة البشرية ضمن علائقها الاجتماعية من خلال الكتل وارتباطها بالسطوح والمسافات وهذه القيم التشكيلية تخلق هكذا.

يقول جلال: "..عندما اقرأ مسرحية أسمع نغمها وايقاعها وهذا ما يوحي لي بالصورة المركبة او (التركيبة الانشائية) والمخرج يضيف لخطوط الصورة والوانها اعماقا وحركات حية.

ان عناصر الجمال هي- التوازن- التناظر- الصمت- السكون- الحركة.." الخ. ولا يمكن لهذه العناصر ان تصبح قيمة جمالية متكاملة ما لم نجعلها (هارمونية) وهذا ما يسميه (جلال) بالتجانس، الذي يعبر عنه الموسيقي احسن تعبير، وهكذا فالتكوين عنصر مهم في إفهام المشاهد والتاثير في استجاباته. ان في توزيع الاشكال الحية والجامدة (الاثاث) على الخشبة يجب ان يؤدي معنى للكلمة والجملة والفعل الذي يراد تطبيقه، بشكل عفوي. ان (جلال) يعتقد ان التكوين على المسرح قيمة شمولية ان فقدها فانه يفقد اهم جوهر فيه، اي انسانيته.

"ومن خلال تطبيقاتي الاخراجية وجدت ان الاسلوب التناقضي في التكوينات المسرحية هو الذي يبرز مضمون المسرحية وهو اساس الصراع المسرحي". لم يكتف المخرج به بل يجد ان الانسان باكتشافه قوانين الطبيعة، والمجتمع منذ ان عبر ارسطو عن الدراما وعدها صراع المتناقضات بين الرغبة والواجب، وصولا الى الثورة الصناعية، واكتشاف الكهرباء والذرة".. الخ.. يجد في ذلك نسبية جمالية تخص (التكوين) واصبحت كذلك لارتباطها بالمتغيرات الحضارية والفكرية والاقتصادية.. ان الصراع هو انتصار رغبتين وانتصار إحداهما.. وجلال يحاول خلق الصراع مسرحيا بمحاولته التعرف على التناقض في الالفاظ حتى يكون بمقدوره ان يصب من ذاكرته الحسية، صورا ليملأ بها تلك المواقف والاحداث.. ان جلال يفهم عناصر المسرحية على انها معادلة جبرية، تبدأ بقصة قصيرة دينية في الاصل، وبفكرة وبفعل يكون بمثابة وصل او جسر بين تجريد الفكرة وتجسيدها ليجعلها موضوعية من خلال فعل الممثل المعبر عن الاحداث بالحوار، والجو العام، وهذا كله هو الذي يكون النص المسرحي، والاخراج يستنبط قيمه الدرامية، بعد ان يؤشر المهم ثم الاهم، ثم الاكثر اهمية والاكثر اكثر اهمية "تعلمت" يقول جلال في الاخراج بعد ان احدد المسرحية واختزلها بجملة وحتى بكلمة واضحة رئيسية، مثلا كلمة الغيرة في عطيل والانتقام في هملت والطموح في مكبث.. وهذه تفسيرات اولية تحتمل الاجتهادات.. ولكنني مثلا عندما اقو لان الغيرة المبالغ فيها تؤدي الى الهلاك، فانني اعي ان كل واحد ينطوي على الغيرة بشكل من الاشكال.. اصبحت لدى عطيل مبالغا فيها.. ومن هذه النقطة انطلق لاترسم انبثاق الاشعاعات من المركز الى المحيط.. وهو يحاول اقتناص الصور الحسية التي تعبر عن مستوى الغيرة.. ومن المؤكد ان لغة المثقف غنية بمفرداتها وان خياله وعلاقته الذهنية اوسع افقا من الامي الذي لا تتعدى مفرداته حيزها الضيق.. وهذا ما يجعل من لغتنا العربية الام هي المرشحة في المسرح لخصوصيتها، وكما يتساءل جلال حين يقول ".. لا ادري لماذا يتقبل الانسان العادي لغة القرآن الكريم، ويفهمها ويؤمن بها ونجد ان هناك من يصر على صعوبة الفصحى في المسرح؟".

والايقاع عند جلال يقوم بوظيفة تشبه وظيفة القلب البشري في العرض المسرحي.. وهو يسميه بالنبض الذي يتم قياسه عن طريق التوقيت، حتى اذا قيلت جملة على المسرح فعليها ان تكون متزامنة مع الحركات، والخطوات ومع الممثل المقابل، حسب تفسير المخرج للحالة العامة، واختياره لمواقع السكون، والقيام، والقعود، والمشي، والالتفاتة، والايماءة، والانعزال، والمرونة الجسدية في المبارزة، وتدرجات الصوت ونغماته باطار تشكيلي وصوتي متجانس يقرأها عشرات المرات بل انه يقول ".. انني غالبا ما ارجع في مطالعتي للقراءة الرشيدة التي درستها في الصف الاول ابتدائي بطريقة ببغاوية، لاجد فيها الفلسفة والتربية وخلاصة النظريات الانسانية. ان جلال عند القراءة الاولى للنص المسرحي، يتعرف على الانطباع الاول، وبعد ذلك يكتشف مسالك كانت مجهولة لديه عند البدابة، وحتى حين ينتهي من اخراج مسرحياته ويعرضها، يكتشف اخطاءها، لهذا يحاول اخراجها مرة ثانية وهكذا لاظهار ما لم يوفق في اظهاره في المرة السابقة، ومن عمل مع (جلال) من الممثلين يدرك مكابرته حتى في آخر لحظة من العرض فهو قلق، دائم التغيير والتقلبات.

ان (جلال) يجد في التقسيمات التسعة لخشبة المسرح، مجالا رحبا يسع ملايين الخطوط الوهمية انه يؤمن بسعة الافق وانفتاح الفضاء.. وتبرز روح المواطنة جلية عند مخرجنا ويعد جلال من اولئك الذين رسخوا هذه التقاليد النبيلة في حركة مسرحنا العراقي "..عندما قرات مسرحية كليوبترا- وجدت فيها حوارا يدور بين (انوبيس وكليوبترا) بعد انسحابها من معركة –اكتيون- تقول "انني لم اخن وطني، ولكني اردت ان اضعف انطونيو واكتافيو.. وانسحبت" وفي سبيل التركيز على هذا الموقف الوطني، استعان، جلال بخيال الظل ليقدم المعركة، وانسحاب الجيوش والبوارج، ويظهر الجنود وهم يسيرون بفخر، ليقعوا امواتا على المسرح بفعل جراحهم على الرغم من حوار (حابي) الذي يحاول فيه ادانة الشعب.

تظهر في (دائرة الطباشير القوقازية) التي اعدها عادل كاظم باسم (دائرة الفحم البغدادية) تقاليدنا وعاداتنا القومية من اجل تطوير النافع وفضح (الضار).. وفي (الصحون الطائرة) دان المنتفعين على حساب الاخرين، حيث اظهر المختار بهيئة الجرذ.. وفي (الطوفان) اظهر طوفان الافكار واكد انتصار (الجماعة) على انانية الفرد، حيث يحاصر الشعب (كلكامش)، وكان الديكور من ابتكاره حيث جعل القسم الاعلى للالهة والاسفل للشعب، وفي (فوانيس) طه سالم ناقش مظاهر الاستغلال، فهذا تاجر عقيم يستغل انسانا فقيرا، والزوجة تستغل السائق، وتطرده، وجلال يعتقد ان البائسين انفسهم في ظروف معينة يستغل بعضهم البعض، وهذا ما تناقشه مسرحية (اوبرا القروش الثلاثة) لبرشت.

في (المتنبي) سلط الضوء على هموم المثقف العربي وغربته، واكد في (مقامات ابي الورد) ايجابية الانسان العربي.. "وحتى ان لم يكن عمران قسيسا فانه كان يؤلب الناس لطرد الفرس المحتلين الذين اغتصبوا ارضه".

في (مكبث) استخدم خيال الظل ايضا، ليدين احلام مكبث المشوهة حيث ينتصر لـ(ماكدوف) لانه يعبر عن طموح جماعي، بينما لم يكن ماكبث الا طموحا ذاتيا مريضا.. لقد تأثر ابراهيم جلال باساليب ستانسلافسكي وبرشت ومايرهولد ولكن من دون ان تطغى على شخصيته الواضحة في الاخراج.. ولابراهيم جلال افضال لا تنسى على واقع حركتنا المسرحية.