الجماعات الفنية في العراق.. الأرهاصات والبدايات

الجماعات الفنية في العراق.. الأرهاصات والبدايات

د. اياد يونس عريبي

كان لعودة الطلبة الدارسين خارج العراق في الثلاثينيات وبعدها الأثر في تأسيس الجمعيات الفنية، فبعد عودة «اكرم شكري»عام 1931 من لندن الذي تشبع بفكرة العمل لتكوين جماعة فنية اسوة بالفنانين الاوربيين، فضلا عن عودة «فائق حسن»من باريس واخذت فكرة تأسيس «جمعية أصدقاء الفن»، يشكل جمعية للفنون التشكيلية،

فتقدم كل من اكرم شكري و»عيسى حنا», وكريم مجيد بطلب الى وزارة الداخلية لتأسيس الجمعية وتمت الموافقة في 7 كانون الثاني 1941 وانتخب اكرم شكري رئيسا للهيئة الإدارية وعضوية «عطا صبري» وجوادسليم، فتأسيس الجمعية دل على الحاجة الملحة التي اقتضتها ظروف المثقف العراقي للتضامن المعرفي والمهني.

في عقد الاربعينات كانت للحرب العالمية الثانية انعكاساتها على مجمل الاوضاع الاقتصادية والاجتماعية والثقافية في البلد , ادت الى اطلال مثقفي العراق على افاق جديدة , شدتهم الى ما في اوربا من تقدم في الميادين المختلفة للحياة , ولاسيما في الادب والفنون والعلوم , وفي هذه المدة من تاريخ العراق صدرت صحف ومجلات كرست صفحاتها للنشاطات المسرحية والسينمائية , ومن معالم هذه المرحلة اتساع دور معهد الفنون الجميلة الذي تكون في موسم1940-1941.

ربما كانت مبادرة الفنان «حافظ الدروبي»عام 1942 بتأسيس مرسم حر ببغداد اول بادرة تشير الى ظهور فكرة الجماعة الفنية , اذ تبنى هذا الفنان فكرة تأسيس محترف فني يلتقي فيه نخبة من الفنانين , ألا ان هذه المحاولة لم تدم الا شهورا قليلة لتنتهي بالفشل , أذ بدت كتقليد لم تتوفر له قابلية الديمومة والتواجد , ألا انه على الرغم من ذلك , لا يمكن التقليل من اهمية المبادرة كنموذج , لطموح يحفز العمل تحت روح جماعية , ومهما يكن من امر فقد التفت الفنان العراقي منذ البداية الى العوامل الاساسية التي يعتقد بانها تساعد على خلق سمة جديدة , لحركة فنية مؤثرة محاولاً عبر العديد من المبادرات تقديم دلالة لا تنفصل عن العمل التاريخي بل تعمل على تعميق صلة الفنان بالواقع الاجتماعي والثقافي والحضاري وتفعيل دوره في المحيط الانساني.

ان البداية الفعلية للفن التشكيلي في العراق قد بدأت في الخمسينيات من القرن العشرين , ففي تلك الاعوام تشكلت الجماعات الفنية، اذ بدأت وقتذاك القيمة الفنية تعرض نفسها، لا القيمة الشكلية المجردة من الأفكار، ان هذه الارهاصات تشير الى ان الفن العراقي قد بدء مع بداية الخمسينات.

بعد ان عاد اكرم شكري من لندن عام 1931قد تشبع بفكرة العمل لتكوين جماعة فنية، اسوة بالفنانين الاوربيين الذين اهتموا منذ مطلع القرن العشرين بذلك وربما كانت الحياة للرسامين البولنديين الذين تأثر بهم اثناء تواجدهم في العراق مدة الحرب العالمية الثانية مثالاً واضحاً لهم، وقد التف حول اكرم شكري مجموعة من الشباب المثقفين المعجبين بفنه، وهكذا مهدت هذه المحاولات الصغيرة لتبلور فكرة جمعية أصدقاء الفن في عام 1941، أي ان هذه الجمعية لم تبزغدفعة واحدة دونما سابق أنذار بل سبقتها محاولات أولية للتجمع الفني على أنها تجلت بلا شك كرغبة عامة للفنانين العراقيين بضرورة توحيد كلمتهم.

وعقب مناقشات طويلة بين مجموعة الفنانين تبلورت فكرة جمعية أصدقاء الفن أخيراً بشكل جمعية للفنون التشكيلة ومحبي الفنون وهكذا تقدم كل من اكرم شكري وعيسى حنا وكريم مجيد الى وزارة الداخلية بطلب لتأسيس الجمعية بتاريخ 7 كانون الثاني عام 1941، وتمت الموافقة رسميا على ذلك، كما تم اجتماع الهيئة العامة وانتخاب الهيئة الإدارية بموجب المادة الرابعة من نظام الجمعية الأساس يوم الأربعاء الموافق 2 شباط عام1941 في دار اكرم شكري، وقد حصل على عضوية الهيئة الإدارية بعد اجراء الانتخابات كل من عطا صبري وجواد سليم في حين غدا رئيسا للهيئة اكرم شكري وسعاد سليم سكرتيراً وعيسى حنا امينا للصندوق.

تشجع فائق حسن بتسمية جماعته , كأول جماعة فنية في تاريخ العراق المعاصرعام 1947 باسم البدائيين ترجمة عن ثقافته الفرنسية وقتذاك (سوسايتيب ريميتيف) الاسم الذي مبدئياً اثار ضحك جماعته الا انه ذكر ان كل فن اصيل لم يتأثر بعوامل خارجيةهو فن بدائي، ومع ذلك اقترح يوسف داود اسم جماعة الرواد التي تعني الباحثين المتجولين عند إقامة اول معرض لهم، نسبة الى ارتياد أماكن العراق شمالا وجنوبا بحثا ودرسه للبيئة العراقية والانسان العراقي وظروفه المختلفةان هذا المعرض لم يقام في عام 1950، في قاعة معينة وانما في بيت احد هذه الجماعة وهو (خالد القصاب) وكان قد أقيم بعد ثلاث اعوام من الصمت التام لمعارض جمعية أصدقاء الفن ,التي كان من ابرز اعضائها فائق حسن وخالد القصاب وزيد صالح ويوسف عبد القادر واسماعيل الشيخلي وفاروق عبد العزيز ونوري مصطفى بهجت وعيسى حنا وجواد سليم الذي انظم بعد عام 1949, والمهندس العسكري عبد الله العمري.

كتبت لوحة للتعريف بالمعرض تتوسطها علامة (S.P ) فاصبح P رمزا لعلم الجماعة في الرحلات, وS للدلالة على طرق الريف الملتوية , وهذه الحروف هي اختصار لاسم جمعية البدائيين , وتوافدت على المعرض يوم الافتتاح جموع المدعوين من النقاد واعضاء الهيئة الدبلوماسية , ومحبي الفنون اذ بقي المعرض مفتوحا لثلاثة ايام وشاهده اكثر من خمسمائة شخص , كان للمعرض وقع كبير على مشاهديه, بعد ان عانت بغداد من سبات فني لأكثر من اربعةاعوام.

غدا المعرض نقطة تحول في تاريخ الفنون التشكيلية في العراق، فقد شجع نجاحهُ جماعة الرواد لإقامة أربعة وعشرين معرضا سنويا على مدى الاعوام التالية، كما ان المعرض الأول هذا ضمن للرواد مكانة تاريخية، فقد كان الرواد اول جماعة فنية في تاريخ الفن المعاصر في العراق، وذلك ما شجع فنانين اخرين على تشكيل تكتلات مماثلة وجماعات مهمة أخرى، وعند نهاية العرض صدرت منظمة اليونسكو لجماعة الرواد رسالة وصفت فيها الرواد بأنهم اهم جماعة فنية في العراق واكثرهم فاعلية، وعرضت عليهم المشاركة في (البينالة العالمي في فينيسيا) وكان هذا تقديرا لم تكن تتوقعه.

اضحت مدة الخمسينيات مرحلة جديدة لجماعة الرواد التي اكتسبت هذه التسمية منذ 22 كانون الأول عام 1950، حيث أقيم اول معرض في بيت الدكتور خالد القصاب , وقد شارك فيه عدد من جماعة بغداد للفن الحديث التي تجلت فيما بعد كلورنا وجواد سليم، ونستطيع ان نلمس منذ البداية وضوح الرؤية الاجتماعية والبدائية معاً في معارضها لهذه المرحلة.

عن رسالة ( الجمعيات الاجتماعية والدينية والفنية واثرها الثقافي في بغداد)