شكيب كاظم
اذا كان أبو علي محمد بن المستنير، قطرب، المتوفى سنة 206، قد إبتدأ الكتابة في علم الاضداد اللغوية، وقطرب، يقرأ بالتثليث، أي بالرفع والنصب والجر، فأن الباحث المعروف الدكتور محمد حسين آل ياسين، قد جاء إلى أطراف المجد من كل نواحيها، بدرسه لظاهرة الأضداد في اللغة العربية، ولم يترك- كما أرى- زيادة لمستزيد، من خلال البحث والتنقيب والتنقير عن هذه الظاهرة اللغوية،
التي قد لا يوجد ما يماثلها في اللغات الاخرى، وتتبعها منذ بداية الكتابة فيها، وحتى العصر الحديث وآخر ما كتب عنها وفيها، ولقد صَبَّ هذا التتبع والدرس والبحث في رسالة جامعية لنيل درجة ماجستير في آداب اللغة العربية، ناقشتها مناقشة علنية صباح يوم الخميس 21/ من حزيران/ 1974، لجنة مؤلفة برياسة الدكتور إبراهيم السامرائي، المتوفى عام(2001) وكان- أيضاً- مشرفاً على إعداد الرسالة وكتابتها وعضوية الدكتور مهدي المخزومي (قرأت نعيه بالصحف يوم الاحد 14/ رمضان/ 1413-7/3/1993) والاستاذ كمال إبراهيم، المتوفى مساء اليوم ذاته، وأستمرت المناقشة العلمية الضافية ساعات طويلة، وحتى المساء، وقرأت حديثاً عنها في اليوم التالي نشرته الصفحة الاخيرة لجريدة (الجمهورية) كتبه الباحث اللوذعي عبد اللطيف عبد الرحمن الراوي.
ولقد دلت الرسالة العلمية الرصينة التي كتبها الباحث محمد حسين آل ياسين، على تمكنه من مادة البحث، وتتبعه للمظان والمخطوطات والكتب، ولم يترك شاردة ولا واردة في مجال الكتابة في ظاهرة الأضداد اللغوية، إلا أحصاها ووقف عندها. ممهداً للحديث عنها، بالوقوف عند بدايات ظهور العربية، من خلال دراسة النقوش التي عثر عليها المنقبون، والتي أفاضتْ في درسها والحديث عنها، كتبُ فقة اللغة، وهي التي تعاور الدارسون على كونها تمثل فجر ما يمكن عده لغة عربية، ولقد وقفتُ كثيراً عند هذه الظاهرة، فالبون كبير وشاسع بين اللغة العربية التي وصلت إلينا، والتي يمثلها الشعر الجاهلي، وسجع الكهان، الذي يرقى الى مئة أو مئة وخمسين، أو حتى مئتي سنة قبل البعثة المحمدية (611م) وبين هذه النقوش البدائية البسيطة بعيدة الصلة بالعربية، إذ أن أقدم النقوش التي عَثَر عليها المنقبون من المستشرقين، والتي تمكنوا من فك رموزها، تكاد ترقى الى المدة الواقعة بين القرن الخامس قبل الميلاد، والقرن الرابع الميلادي، وهي النقوش الثمودية واللحيانية، نسبة الى قبيلتي ثمود ولحيان، والصفوية التي عثر عليها في تلال أرض الصفاة، في منطقة جبل الدروز، وخطوط هذه النقوش تُشْبِه خطوط اللغة العربية الجنوبية القديمة، والتي تعرف بأسم اللغة الحميرية، وتكتب من الشمال الى اليمين، كما عثر المنقبون على نقوش أربعة مكتوبة بالخط النِبْطي المتأخر وهذه النقوش هي: نقش النمارة ونقش زَبَدْ ونقش حران، ونقش أم الجِمال، وأقدمها نقش النمارة، إذ دُوِّن عام 328 بعد الميلاد، في حين ورد في كتاب الدكتور آل ياسين مؤرخاً في 228، ترى هل كانت هذه المدة القصيرة كافية لبلورة لغتنا التي وصلتنا بشكلها الانيق، وبين لغة هذه النقوش؟ أمام هذه التساؤلات التي لم أجد لها جواباً حتى الآن، لم يبق أمامنا سوى إفتراض واحد هو: الشك في صحة النقوش، الشك في صحة العهد الذي ترقى إليه وترجع، إننا حتى لو ملنا الى رأي المستشرق إسرائيل ولفنسون في كتابه (تأريخ اللغات السامية) " لذلك يحتمل أن تكون بعض نقوش، على الاحجار والصخور، أو كتابات على الرق لم تكتشف بعد...." فأن المدة التي تفصل – كما قلتُ – بين لغة هذه النقوش، واللغة الرائعة التي وصلت إلينا، لا تسمح بمثل هذه التطور.
وأكاد أميل إلى أن نقوشاً عربية خالصة لم تكتشف بعد، فالنقوش التي عثر عليها هي في مواقع بعيدة عن الجزيرة العربية، وقد يأتي الوقت الذي تكتشف فيه، وعند ذاك سيتمكن الباحثون من متابعة التطور اللغوي لها.
إن هذه الظاهرة اللغوية العجيبة، لمما يحيرالألباب والعقول، إذ أن هناك – كما أزعم ثغرة كبيرة – لم يتمكن الباحثون من فك رموزها ودراستها حتى الآن – بين لغة هذه النقوش البدائية، التي لا تكاد تقدم صورةً عن حياة أهلها، أو ما يقرب من هذه الحياة، إذ هي عبارة عن نقوش على القبور والكنائس، تكثر فيها الاسماء، لعلها أسماء الموتى، أو إسماء من أسهم في بناء دار العبادة هذا، وبين تلك اللغة المشرقة الموحية المتكاملة، نحواً وصرفاً وبناءً وإعراباً، التي جاء بها العرب في العصر الجاهلي، أو تلك التي نزل بها القرآن الكريم.
كيف السبيل إلى وصل هذا بذاك؟ هل هناك نقوش ظلت مطمورة تحت التراب، تنتظر من يشمر ساعد الجد، كي يزيل عنها التراب ويفك رموزها؟ ولماذا أقول يفك رموزها، ولا أقول يضعها في سياقها من التطور اللغوي الذي مرت به العربية؟
وإذ ينتهي الباحث محمد حسين آل ياسين من درس هذه النقوش ولغتها، يقف عند دراسة خصائص اللغة العربية مثل: القلب والابدال والاشتقاق بنوعيه الأصغر والأكبر ومن ثم النحت والأتباع والمجاز والاستعارة واُلمَعرَّب والدخيل والمترادف اللغوي والمشترك اللفظي.
في هذه الرسالة العلمية الرصينة، التي نشرت كتاباً سنة 1974، ساعدت جامعة بغداد على نشره، والتي كنتُ شغوفاً وحريصاً على الحصول على نسخة منه، وأخيراً حصلت على نسخة مصورة، قرأتها بأمعان وشغف، مستغلاً هذه الفرصة لأرجو مبدعها الباحث الرصين آل ياسين، أن يتحف عالم البحث والقراءة، بأعادة طبعه، أقول في هذه الرسالة، يقف الباحث موقف المتسائل عن صدقية هذه الظاهرة، ظاهرة الأضداد في اللغة العربية، ليرى: " فليس لنا أن ندعي أن في العربية مشكلة إسمها (الأضداد)، وإنما هناك الفاظ تداخلت معانيها وتطورت أصوات دلالاتها، فَعَلَقَتْ بها الضدية علاقةً طارئة غير أصيلة، وإذا كانت ثمة مشكلة حقيقية فهي في ضخامة كتب الأضداد."
علم ابيه الشيخ
إن إحترامه لعلم أبيه الشيخ محمد حسن آل ياسين – رحمه الله- وابوته، لا يمنعانه من مناقشة رأي أبيه العلامة في قضية كتاب أبي زكريا يحيى بن زياد الفراء في الأضداد فهو لا يملك ذكراً للكتاب في المصادر والفهارس القديمة إلا إشارة إبن الدهان، والذي سوغ له وجود كتاب للفراء في الأضداد أن إبن الدهان يذكره مع جمهرة من مؤلفي كتب الأضداد مثل: الاصمعي والفراء وقطرب وأبن السكيت وأبو العباس ثعلب وأبو حاتم السجستاني وأبو بكر بن الأنباري، وكل كتب هولاء وصلت إلينا، إلا كتاب ثعلب مما يرجح تأليف الفراء لكتاب في الأضداد، لا يمنعه ذلك من مناقشة رأي أبيه العلامة الذي حقق كتاب ابن الدهان ونشره في النجف عام 1952، وأعاد طبعه في بغداد سنة 1963 الذي لم يأبه بأشارة إبن الدهان الى وجود كتاب في الأضداد ألفه الفراء، ناصاً على رأي أبيه الشيخ محمد حسن القائل: "ليس له كتاب في الأضداد، ولكنه يشير الى الكلمات المتضادة في تضاعيف مؤلفاته".
في حين يرى الباحث محمد حسين آل ياسين، والظاهر أنه كتاب صغير، ولصغره ظل متداولاً في أوساط ثقافية ضيقة جنباً الى جنب مع الكتب المعاصرة في الأضداد، حتى إذا ظهرت كتب إبن الأنباري وأبي الطيب وغيرهما من المصنفات الضخمة في هذا الباب، تلقفتها الأيدي وأكبت عليها بيوت العلم، فقل شأن الكتاب الصغير، حتى ضاع فلم نسمع به إلا على لسان إبن الدهان بهذا الشكل الضعيف، شأنه في ذلك شأن كثير من الكتب التي ذابت في خضم المصنفات الكبيرة المؤلفة في بابها فضاعت ولم نسمع بخبرها، وبهذا نستطيع أن نفسر إغفال (الفهرست) لابن النديم المتوفى سنة (377) وهو أقدم من ذكر مصنفات المترجمين بأستيعاب – لأضداد الفراء- تراجع ص341-ص342.