رسائل من زنزانات الإعدام البعثية في «أبو غريب» السكرتير الخاص لآخر ملك في العراق يروي ذكرياته

رسائل من زنزانات الإعدام البعثية في «أبو غريب» السكرتير الخاص لآخر ملك في العراق يروي ذكرياته

عصام غيدان

يروي لنا عطا عبد الوهاب في هذا الكتاب قصة حياته عبر رحلاته الكثيرة التي قام بها داخل العراق وخارجه، وكانت اطولها تلك السفرة الرهيبة التي بدأت من الكويت عام 1969 عندما اختطفه رجال والقوا به في المحرقة البعثية لكي يقضي فيها اكثر من ثلاثة عشر عاما.

يصف الكاتب في القسم الاول من الكتاب اسفاره داخل العراق على هيئة رسالة طويلة موجهة الى نجليه كتبها في زنزانة الاعدام في سجن «أبو غريب» حيث قضى قرابة ست سنوات. وهي رسالة مدونة بأسلوب عفوي وفيها لقطات للحياة في العراق خلال عقدي الثلاثينات والاربعينات من القرن المنصرم، ونوادر مسلية وصور قلمية لعدد من اعلام العراق الذين لعبوا ادوارهم في حياة البلد بتمهل وتؤدة من دونما مرارة، حتى ليغيب عن ذهن القارئ تماما ان منجل الموت كان مسلطا على رقبة الكاتب ليل نهار عندما كان يخط سطور الرسالة.

في سنة 1950، قام بأول سفرة له الى خارج العراق، مسطحبا معه زوجته ليعمل في ممثلية العراق الدائمة في الامم المتحدة في مدينة نيويورك. قضى هناك خمسة اعوام تسنى له خلالها اشباع روح التلمذة لديه في قاعات الدرس والمسارح وورش العمل والمؤتمرات الدولية. وفي نيويورك اكتمل نصاب عائلته بعد ولادة نجليه. ثم تلت الاقامة في نيويورك سنتان في سفارة العراق في بيروت.

في ربيع عام 1957، اعيد الى بغداد معارا من السلك الدبلوماسي ليلتحق بالديوان الملكي بوظيفة سكرتير خاص للملك فيصل الثاني والامير عبد الاله الذي كان وليا للعهد، وقد كان عبد الاله يعرف عطا من لقاءات كان قد اجراها معه خارج العراق، وكان معجبا بسعة افقه وجرأته في العرض والتحليل. دام عمله في الديوان الملكي لغاية 14 يوليو (تموز) 1958، يوم سقوط الحكم الهاشمي واعلان الجمهورية. يخصص المؤلف جزءا غير قصير من كتابه للحديث عن هذه الفترة رغم قصرها، وجله عرض لملامح شخصية عبد الاله فيرسم له صورة مخالفة لما هي عليه في مخيلة الفرد العراقي. وفي هذا الجزء من الكتاب يفقد النص شيئا من عفويته ويستخدم فيه لغة دفاعية لا مبرر لها لأن الديوان الملكي دائرة كسائر دوائر الدولة والانتساب اليها ليس معيبا، بل ان الاصلح ان يعمل فيها من يتصف بالنزاهة والتفكير المستقل.

بعد التحاقه بعمله هذا بفترة قصيرة طرأت له فكرة استثمار موقعه في مركز صنع القرار ومعرفته الشخصية بعدد من رجال المعارضة لغرض التقريب بين وجهتي النظر المتعارضتين حد الاستقطاب والعمل على دفع عجلة الحكم نحو الديمقراطية عن طريق احترام حرمة الدستور والالتزام الصارم بأحكامه، فانطلق يخطط لهذا المشروع، لكن الاحداث التي تلت قضت عليه.

الآن، وبعد مرور قرابة خمسة عقود، تبدو لنا تلك الفكرة مفارقة غريبة، فكيف يتأتى لانسان بمفرده، مهما كانت قناعته ومضي عزمه، ان يصلح نظاما كان يحمل في طياته جرثومة خرابه منذ ولادته في عام 1921؟ في تلك السنة اعتمدت بريطانيا ورقة القومية العربية لتأسيس الدولة العراقية، في وقت لم تكن فيه هذه الفكرة منتشرة في العراق انتشارا واسعا، وسلمت مقاليد الحكم للاقلية السنية العربية واستبعدت الاكثرية الشيعية التي كانت شهرت السلاح بوجه الانتداب، رغم انها تمثل وفق بعض التقديرات %75 من السكان العرب في العراق. وبعد اكتشاف خزين النفط في كركوك قررت بريطانيا بسط نفوذها على المنطقة الكردية وعلى ولاية الموصل فضمتها للدولة العراقية ناكثة بذلك الوعد الذي كانت قطعته باعطاء الاستقلال للشعب الكردي الذي تم الحاقه قسرا، مع وضعه هو الآخر خارج دفة الحكم رغم ان تعداده كان يمثل بموجب تخمينات اولية ربع سكان العراق. ولقد تبنت الحكومات المتتابعة هذا الوضع الشاذ، فكانت تلجأ الى العنف لاخماد اية معارضة تصدر عن الفئات المستبعدة، مستجيرة بالاسناد العسكري من الجيش البريطاني المرابط في العراق. وهكذا بدلا من ان يصبح العراق مسرحا للتعددية الثقافية بحيث تجد هذه التعددية انعكاسا لها في نظام الحكم، بات يرزح تحت حكم اقلية تنطق باسم الامة من دون اي تفويض.

يتطرق الجزء الاخير من الكتاب الى ظروف الاعتقال والتحقيق والسجن. هنا يستعيد النص حيويته وينطلق الى ذروة جديدة هي خليط من السيرة والوصف للواقع المعاش خلف الاسوار. اختطف الرجل في خريف 1969 من خارج العراق، اي بعد استيلاء البعث على الحكم بسنة واحدة يقول عن ذلك:

«لقد فقه سيد الحكم البعثي معادلة الارهاب السحرية وطبقها حرفيا، والمعادلة هي: براءة + ظلم = ارهاب، اذ لا بد ان يقع الظلم على البريء حتى تعطي المعادلة نتيجتها. وقد وقع هذا الظلم على زكي وعلي وعلى كثيرين آخرين من قبلنا ومن بعدنا، وهو يؤتي ثماره المرجوة في دوام السلطة رغم توفر اسباب سقوطها، فلو وقع الظلم على غير البريء.. فإن هذا الظلم لا يؤدي الى الارهاب لسقوط احد اركان المعادلة. اما اذا وقع الظلم على بريء فعندئذ يقول المرء: قد اكون انا البريء في المرة المقبلة، وهكذا ينتشر الخوف ويسود الارهاب وتتم المعادلة» (ص490 ـ 491 من الكتاب).

اختطفه فريق من شقاة حزب البعث العراقي فنقل مخدرا بسيارة دبلوماسية الى مركز التعذيب في قصر النهاية في بغداد. واللافت للنظر هذا التخطيط الدقيق والتنفيذ المتقن لهذه العملية المعقدة بما في ذلك معرفة مكانه وتخديره، ثم اجتياز الحدود الدولية من دون جواز سفر! بعد ثمانية اشهر قضاها في غرف التعذيب قدم للمحاكمة متهما، وصدر الحكم باعدامه رغم انه استند الى افادات استخلصت من آخرين تحت التعذيب.

بعد صدور الحكم عليه بالاعدام دخل زنزانته ليواجه الاختيار العسير: الوجود ام الفناء؟ التمرد ام التخاذل؟ واذا هو اختار الوجود فقد كان عليه ان يجد الحافز لممارسة التمرد فوجد ضالته في الفن.

في عام 1975، عندما استتب الحكم للزمرة البعثية صار بوسعها الاسترخاء قليلا فقررت تخفيف الاحكام لعدد من المحكومين بالاعدام. في خريف تلك السنة ترك عطا عبد الوهاب زنزانة الاعدام التي قضى فيها 66 شهرا كتب خلالها المئات من الصفحات والعشرات من القصائد، فانتقل الى ردهات السجن الاخرى ليقضي فيها ثمانية اعوام اضافية قبل ان يذوق طعم الحرية.

«ان اصمد بوجه القوى الخفية التي تريد سحقي قأقلب النقمة العجيبة التي حلت بي الى نعمة لم اكن احلم بها وارد بذلك الكيد الدنيء الى نحره واهزم غرض الطغمة الشائنة التي نصبت لي حبائلها كأمر دبر بليل» (ص 512 من الكتاب).

الشرق الاوسط 2005