هكذاعرفت عطا عبد الوهاب

هكذاعرفت عطا عبد الوهاب

د خالد السلطاني

سمعت باسم عطا عبد الوهاب قبل ان اتعرف عليه شخصياً. في نهاية الثمانينات، وبداية التسعينات، تكررت زياراتي الى دار جعفر علاوي بالمنصور – المعمار العراقي الرائد، الذي فجعت بخبر وفاته مؤخرا. كنت مهتما (ولازلت) بالعمارة العراقية الحديثة: منجزها، وشخوصها، خفاياها وحكاياتها الحقيقة..

وغير الحقيقية؛ ولم يك بدا من الذهاب الى "الينابيع" الرئيسية لتلك الظاهرة، التى لم تبحث، للاسف، بشكل موضوعي، ولم يكتب عنها دراسة ًً شاملة ورصينة ، دراسة تتعاطى مع موضوعها بجد واخلاص: بداياتها وانجازاتها، وخصائصها واضافاتها وتأثيراتها ومؤثراتها... والينابيع – هم المعماريون الاوائل الذين واكبوا مراحل مسار تلك العمارة، وجعفر علاوي، بشخصيته المحببة المرحة، وحبه للعمارة وللثقافة بشكل عام، يمثل، في رأي، احد تلك الينابيع المهمة.

مرة، سالته من هو جاره الذي يشغل مسكنا تؤم مسكنه، والمصمم من قبله. ورد سريعا وبدهشة:

-عطا عبد الوهاب... الا تعرفه؟

-لا.

وقص لي، بتعاطف جم قضيته المأسوية، مختتما كلامه عن محنته التى وجد نفسه منفردا في زنزانة اعدام لفترة تزيد على اربع سنوات (للدقة، ووفقا لما سيذكره عطا عبد الوهاب في "سلالة الطين"، كانت المدة: خمس سنوات واربعة اشهر!)؛ كان كلما سمع طقطقة خطى السجان، وصوت مفاتيح تفتح الزنازين، يشعر بانه المقصود للاعدام، وهذه الحالة تتكرر يوميا، ولمدة تزيد عن اربع سنوات...

طار، فجأة، تأثير "الويسكي"، الذي كنت احتسيه، وبهت لجملته الاخيرة مرعوبا ً..

وسمعته يقول بصوت بدا لي وكأنه آت من مكان بعيد:

- الله لا "يشوّف" محنته لاحد!؛... الله يساعده!

لملمت اغراضي سريعا وخرجت، كان خروجي يمّر لصق الجدار الفاصل بين المسكنيّن، وشاهدته عبر السياج، كما كنت اشاهده دوما، عند زيارتي الى استاذ جعفر، كهل عادي، ضعيف البنية، اقرب الى القصر منه الى الطول، في بنطال قصير (شورت)، منهمك، كعادته، في رش مزروعات حديقته التى بدت غاية في النضارة والتنظيم.

اربع سنين، في زنزانة اعدام؟، هذا يعني حوالى 1500 مرة، كل يوم تشعر بان حياتك قد انتهت! – شئ، مذهل، مخيف ومرعب، ومفجع ومأساوي، هل ثمة كلمات اخرى تصف الحال؟ وكيف تمالك نفسه كل ذلك الوقت، من دون ان ينهار؟

كان مجرد استذكار ما قاله جعفر عنه، يملء نفسي هلعا وذعرا وخوفا لا يوصف؛ حتى اني اعتبرته، بحكم ما قاساه، مخلوقا خارقا ، اقرب الى شخصيات الاساطير القديمة، منه الى انسان عادي!... انكيدو... او احد ابطال المآسي الاغريقية، اللذين بمقدورهم ولوحدهم تحمل آلام ومعاناة يتجاوز تحملها قوة احتمال البشر!.

كنت ميال الى تحاشي الكلام معه اجلالا وتقديرا لما كابده، بيد انه بالفته وحميميته،كان يظهر بعض الود تجاهي ويغريني بالحديث معه، ويرشدني ضاحكا باستمرار المداومة على طرق باب جعفر، عندما اشعر بان لا احد في الداخل يستجيب الى طرقي. وعلى ما يظهر فانه قد سأل جعفرا عن شخصية زائره المتردد عليه، في الفترات الاخيرة كثيرا، وفي وقت محدد. ويبدو ايضا ً انه قد قرأ لي بعضاً من المقالات التى كنت انشرها في وسائل النشر المحلية. وبمرور الايام، واثر لقاءات عديدة في مناسبات ثقافية، كـّنا نتبادل الاحاديث، واحيانا نتناقش في الشؤون الثقافية، والمعمارية على وجه الخصوص، وكان اهتمامه وسعة معرفته بالاخيرة، تثير لدي دائما الدهشة.. والارتياح.

لكن عطا بدا قريبا لنا، نحن المعماريين، عندما ظهر كتاب " الاخيضر والقصر البلوري " لرفعة الجادرجي (1993)، والذي صاغه عطا عبد الوهاب، باسلوبه الممتع والخاص والمميز. كان ظهور الكتاب، بمنزلة حدث معماري مهم، يماثل في رأي، ظهور مبنى بتصميم استثنائي؛ فلاول مرة يصدر في العربية كتابا معماريا بهذه السعة والشمولية والاخراج والاناقة، واللغة، اللغة الجميلة التلقائية المعتـنية بالتفاصيل، والمؤسسة لنص قلما قرا سابقا ً. والكتاب، كما هو معروف، كتب في سجن " ابي غريب "، عندما كانا الاثنان: عطا ورفعة نزيلين فيه. والامر الذي يبعث على الحيرة بان عطا لم يذكر، ولا مرة واحدة حادثة كتابة نصوص الكتاب، في مؤلفه " سلالة الطين ". lt; ياتي ذكر رفعة الجادرجي مرة واحدة بالكتاب (ص 583)، في مناسبة بعيدة جدا عن العمارة، وابعد ما تكون عن قضايا العمارة العراقية ايضا ً gt;، وكل ذلك يثير الدهشة والحيرة، ذلك لان تأليف الكتاب واسلوب لغته، ومناسبة صدوره، تعد حدثا بارزا في الثقافة العربية عموما، وتعد امرا غير عادي في مجمل الخطاب المعماري العربي. هل فات عطا حادثة الكتاب؟؛ ام ان صمته المعبّر يشي الى دلالات معينة، تومئ الى وقائع من نكران وجحود صادفهما كثيرا وباستمرار على امتداد سنين حياته؟

لكن قمة "عطاء" عطا عبد الوهاب "المعماري"، كان في ترجمته كتاب "لو كوربوزيه" (المودولور) (1995)، وانا هنا اتناول جانبا من شخصيته الثرة المتنوعة الاهتمامات، عالية الثقافة، وهو جانب الاهتمام الثقافي بالشأن المعماري، الشأن الذي يشكل الاحاطة والمعرفة به جزءا من مهنتي وشخصيتي، واعزو له، بالاساس، حيثيات تمتين اواصر المعرفة فيما بيننا. واللافت في الترجمة، اضافة ً الى حضور اللغة الانيقة، نوعية الاختيار، فالكثير من القراء العرب، واتجاسر واقول العديد حتى من المعماريين العرب ايضا ً، يجهلوا تأثير واهمية هذا الكتاب على مسار تطورّ العمارة عموما، وعلى منتجها المادي الملموس. ومع ان كتاب "المودولور"، صغير الحجم، فانه حافل بمصطلحات هندسية ومعمارية كثيرة، وكل مصطلح فيه يدل على معنى محدد وواسع، واي اخلال في ترجمة المصطلح، سيفضي الى اضطراب في المعنى المقصود. بيد ان نتيجة الترجمة جاءت على درجة عالية من الكمال، والاتقان، يزيدها بهاءا الاسلوب اللغوي المصطفى، ونوعية اختيار المفردات، وهو ما اشرت اليه، في مقالة منشورة، تعود الى سنة 1995، اشيد بها صوابية اختيار الترجمة، ولغتها الرشيقة البارعة.

... في عمان، الاردن التى انتقل اليها من بيروت، ومحطتي الاولى بعد خروجي من سجن العراق الصدامي البعثي، في منتصف التسعينات، تقابلنا مرة اخرى، وزرته في بيته بمعية خالي ماجد النهر- جاره في المنصور ببغداد سابقا، وجاره الحالي بعمان. كان، دائما، وكعادته مسكون بالهم الثقافي، ونشاط الترجمة، الذي كان يمارسه وفق طقس خاص من الصرامة والضبط العاليين. لم يكن في بحبوحة من العيش، كما تفصح عنه نوعية شقته واثاثها المتواضع، بيد اني لم اسمعه قط يشكو وضعه المعاشي على امتداد خمس سنوات، وهي الفترة التى عملت فيها استاذا في جامعات الاردن، وظل رجلا متحصنا ومترفعا قلّ نظيره!. وينبغي علي ّ، الان، الاقرار بجميله ومعاضدته لي لنشر كتابي lt; رؤى معمارية gt; (2000)، عند صديقه الناشر، الذي ساهم حضوره الشخصي لمكان اجتماع الناشرمعي ومتابعته المؤثرة، الى سرعة تذليل معوقات كثيرة.

(2)

الكتاب

جاء كتاب "سلالة الطين – سيرة ماساة"، و شكل غلافه، الذي صممه "سينا عطا"، ابن المؤلف، يعبربرمزية لاذعة عن محتوي الكتاب؛ اقول يعبر، ولا اعني الاختزال. اذ لا يمكن اختزال نص يحكي مضمون، من خلال كلمات مغموسة بوجع انساني، سيرة آلام ومعاناة لا تصدق. يمكن فقط سرد بعضا من وقائعها في مكان معين وفي زمان معين، توطئة لسرد، لاحقا ً، التالي منها، حتى تكتمل فصول تراجيديا العذابات والاوجاع والمآسي التى اوجدها "نظام" قتلة وفتاكين، كان جل مرماهم اغتيال "منظومة" الحياة العادية لملايين العراقيين، الذين وقعوا، في غفلة من الزمن، بين ايديهم، ومن ثم التلذذ بعملهم المشين!.

يحاول عطا عبد الوهاب ان يعزو سبب محنته التى بدأت بمطاردته ومن ثم اختطافه في دولة اخرى، ونقله الى العراق خلسة، وتعذيبه واعدام اخيه والحكم عليه بالاعدام، ومن ثم سجنه لمدة تفوق على ثلاث عشرسنة، بدون ادنى مبرر، فيجدها في تضافر ظروف "على نحو لا يحتمل وقوعه الا بنسبة واحد الى مليون" ص (493). لكن جواب تساؤله المرّ على استفهام مزدوج "لماذا؟ لماذا؟"، الوارد في صفحة 488 من الكتاب، يمكن ان يكون صحيحا ً بالطبع. بيد ان الاشارة والتأكيد مرة، ومرات، على طبيعة النظام، الذي وجد العراقيون، فجأة، انفسهم محاصرين بمصيدته، لينصب عليهم بعدئذ عنفا غير انساني، وارهابا فجا، وقتلا مجانيا، وكل ذلك ترادف مع ضياع المقاييس، والاعلاء من شأن الوحشية والتدمير الشامل لكل ماهو خير وصحيح وصائب في سلوكية الافراد، يمكن ان يكون جوابا لذلك الاستفهام الذي طرحه، فجميع العراقيين كانوا وقودا، لتلك الممارسة الشاذة وغير العقلانية التى مارستها عصابات القتل والجريمة، على امتداد عقود من حكم نظام البعث الصدامي.

تثير قراءة نصوص كتاب "سلالة الطين" تعاطفا جما مع محنة المؤلف، كما تغوي تلك القراءة، الى التنديد الشديد بالظلم والظلامية اللذين خيما على العراق عهد النظام الاستبدادي الشمولي البائد. على ان قراءة محتوى الفصل الاول الخاص بالاسفار، اثار لدي تعاطفا اضافيا مع نوعية شخصيات ورد ذكرها عرضا في الكتاب، شخصيات ادت واجباتها الوظيفية والوطنية على اكمل وجه، وضاع جهدها ومآثرها في خضم التباسات وتقييمات ايديولوجية وفكرية، غلفت الحياة السياسة العراقية ردحا طويلا من الزمن. واعني بهم رجال الطبقة الوسطى العراقيين ذوي الثقافة التركية، ودورهم الكبير والمهم في ترسيخ مبادئ الضبط الاداري، والاعلاء من شأن قيم الانتماء الوظيفي، والامانة على المال العام، والسلوك النزيه المتجرد من المنفعة الشخصية فيما يخص قضايا الشأن العام. انهم امثال اؤلئك الذين يتكلم عنهم، عطا عبد الوهاب بمودة ومحبة كبيرتين في مستهل القسم الاول من كتاب "سلالة الطين".