من دمشق الى بغداد سنة 1921 .. رحلة محفوفة بالمخاطر

من دمشق الى بغداد سنة 1921 .. رحلة محفوفة بالمخاطر

طاهر الزبيدي

لقد اعفي اخي جميل من عقوبة الاعدام التي كان الفرنسيون قد حكموا عليه غيابياً، وقد تركنا اخي وعاد الى العراق (براً) وبعد سفره كنت همزة وصل بين المرحوم ياسين الهاشمي وبين السفارة الانكليزية في الشام، آخذاً لهم منه ما يطلبه ويكتبه تحريرياً وعائداً اليه بما يجيبونني به على طلباته ورسائله، وقد أعفوا ياسين الهاشمي هو الآخر من عقوبة الاعدام.

وقد قررنا أنا ومجموعة واهلي العودة الى العراق براً للالتحاق بأخي جميل وقطع علاقتنا نهائياً بسوريا، فاستأجرت اربعة جمال مع قافلة توجهت الى العراق، وقد استصحبت معي في سفرتي هذه المرحوم صالح طوب العراقي الجنسية والسيد عمر السوري الجنسية، لان الأخير كان محكوماً عليه من قبل الفرنسيين بألاعدام ايضاً وكان معنا ايضاً في القافلة توفيق يوسف السويدي ووالد زوجة ياسين الهاشمي المسمى عبد المجيد وعائلة المرحوم نوري القاضي ومن الضباط كل من المرحومين الملازم الأول علاء الدين الحصان والملازم الأول عبد الجبار والملازم ثاني ابراهيم القاسم ومن آخرين رافقوا القافلة ومن ضمن هؤلاء عائلة المرحوم ناجي يوسف السويدي وكل من الطبيبين السوريين المدنيين المتعاقدين مع الحكومة العراقية لمزاولة اعمالهم كطبيبين في العراق وهما : الدكتور زكي الورع والدكتور فتحي راغب، وكان خط سيرنا الى العراق هو : دمشق -النبك – القريتين – تدمر- وادي الميا – وادي حوران – كبيسة – الرمادي – بغداد، مشياً على الاقدام.

تحركنا من دمشق يوم 7 أيلول 1921 (بسم الله مجريها ومرسيها) فوصلنا النبك ومنها الى القريتين في نفس اليوم وتحركنا في اليوم الثاني الى تدمر عند الصباح الباكر وفي الساعة التاسعة من صباح ذلك اليوم، وبينما كنا في طريقنا الى تدمر شاهدنا سيارة صالون عسكرية فيها ضابط فرنسي برتبة (نقيب) وشخص آخر عسكري برفقته إجتازانا بطريقها الى تدمر وعندما وصلنا تدمر علمنا ان هذا الضابط الفرنسي جاء ليلقي القبض علينا نحن الضباط الذين كنا في القافلة، وكان في الجهة الغربية من بلدة تدمر يسكن الشيخ النواف بن نوري الشعلان وكان مريضاً وعرضنا عليه استعدادنا للقيام بخدمته ومداواته لأنه يوجد معنا طبيبان وشفي والحمد لله.

ان الضابط الفرنسي طلب منه أن لا يجوز للقافلة ان تترك محلها وتسافر قبل ان تفتش ونتاكد عدم وجود ضباط فيها (حيث كان الشيخ قد اعلمه بأن لا يوجد ضباط في القافلة)، وبعد يومين وعند العصر جاءت مفرزة وعلى رأسها السيد الملازم أول عبد الجبار الراوي (مدير الشرطة العام أخيراً في العراق)، بصفته ضابطاً في الجيش المختلط الفرنسي (الملبس) الذي شكلوه بعد دخولهم واحتلالهم لسوريا من الجيشين الفرنسي والسوري، فما كان من الأخ الشهم عبد الجبار الراوي الا وأن ينفي وجود ضباط في القافلة بالرغم من معرفته لنا وصداقته الحميمية مع المرحوم ابراهيم القاسم.

فوافقت السلطة الفرنسية على حركة القافلة على ان تبيت في تدمر في طريق سفرها وعند صباح اليوم الثاني تتحرك القافلة بعد ان يجري التفتيش على منتسبي القافلة للتاكد من عدم وجود ضباط فيها، ولما علمنا بقرار السلطة الفرنسية هذا رجونا الشيخ (نواف) أن يجد لنا طريقاً للتخلص من هذا التفتيش بحيث نجتاز مدينة تدمر من منطقة بعيدة عنها، وفعلاً ارفق معنا المدعو (عاشج) أحد افراد عشيرته ليكون دليلاً لنا نحن الضباط ليدبر اجتيازنا تدمر من مسافة بعيدة عنها وثانياً ليبقى مع القافلة حتى وصولنا مدينة كبيسة (كوجة) للتخلص من الغزاة في طريقنا، وفي الساعة التاسعة (2100) ليلاً ذهبنا برفقة الدليل مشياً على الاقدام بهيئة رعاة تقود الجمال حتى اجتازينا منطقة تدمر من نقطة تبعد عن شمالها بمسافة ثلاثة كيلومترات تقريباً الى أن وصلنا منخفضاً يبعد عن تدمر شرقاً حوالي السبعة كيلومترات فقضينا ليلتنا مع الدليل في ذلك المنخفض وقضت القافلة ليلتها في تدمر، وعند الصباح وفي الساعة التاسعة تحركت القافلة من تدمر بعد أن مرت بنقطة التفتيش الفرنسية بطريق تقدمها الى العراق، وهكذا تخلصنا والحمد لله من الفرنسيين فوصلتنا القافلة و، وسرنا على بركة الله وبعد حركتنا بساعة واحدة تقريباً شاهد المرحوم علاء الدين جواد الحصان ارنباً مختبئاً تحت عليقة فرماها ببندقيته التي كان يحملها فقتلها وبعد ذلك بعشرة دقائق فقط وعلى صوت تلك الاطلاقة المشؤومة هاجمتنا جماعة من الغزو.

سلب القافلة

وبداوا يسلبون من القافلة ما تمكنوا من سلبه ولم يقتربوا من النساء ثم تصدى لهم الدليل (عاشج) وافهمهم اننا بوجه الشيخ نواف الذي هو شيخهم فتركونا واعادوا الينا ما سلبوه منا ثم تابعنا السفر حتى وصولنا الى وادي المياه وكان في هذا الوادي عشيرة من عنزة تسكن وكان رئيسها الشيخ محمد تركي وكان بعض افراد عشيرته مصابين بجروح اصابتهم من جراء معركة وقعت بينهم وبين عشيرة اخرى، إذ كانوا تخاصموا وتقاتلوا فقتل من قتل وجرح من جرح وانتهت المعركة بينهما عند هذا الحد وكانت الجروح التي اصابت بعض افرادهم قد ملأوها بالبارود وشدوها ببعض الخرق البالية والممزقة الوسخة وبعد مشاهدتهم بهذه الحالة (شمر) كل من الطبيبين فتحي راغب وزكي الورع اللذين كانا يرافقان قافلتنا عن ساعديهما واخذا يخرجان البارود من جروح المصابين ويقوما بمداواتها ولف جراحها لمدة خمسة ايام قضيناها في تلك العشيرة، وكان بئر الماء الوحيدة لدى هذه العشيرة مغطى ماؤها بروث الجمال والخيل والغنم، وعندما كنا نريد ان نشرب الماء من هذه البئر نرفع ما على سطح ماء البئر من أوساخ ثم نغرف الماء كيف ما اتفق ونشربه، وقبل ن نترك هذه العشيرة ونسافر، أخرجنا بعض علب الحلوى واعطيناها الى اولادهم، وعندها قال شيخهم اتركوا لنا كل ما عندكم من هذه الحلوى وكذلك مالديكم من أدوية ولفافات فتركناها لهم كما .

شاءوا أو ارادوا ثم خرجنا من مخبئنا وفوراً بدانا بالحركة نحو الماء واذا بجماعة الغزو الذين اقدر عددهم بحوالي ثمانين رجلاً وهم من عشائر (شمرجرية) هاجمونا باسلحتهم بقصد السلب والنهب وبعد برهة قليلة شاهد من الجمل الذي كان (هودج) والدتي وشقيقتي وهما فيه وعليه بسحبه احد الرجال المهاجمين يتجه بهم الى الشمال وكان قد ابتعد من محل وجود القافلة بمسافة مئة متر فركضت خلفه حتى وصلت اليه فقلت له : الى اين تريد الذهاب بهما ؟ أو لم تكن عربياً ومسلما واين اللتان تسحبهما امرأتان لا حول لهما ولا قوة، فارجوك اخل سبيلهما فلم يهتم لما قلته له بل شتمني، فما كان مني الا ان رفعته بيدي ورميته على الأرض، فصاح بأعلى صوته، فجاء ثلاثة من اعوانه وقد هاجموني فوضع أحدهم فوهة بندقيته في جانبي الايسر وضربني الثاني بخنجره على كتفي الايمن وقد زغت عنه فجرحني جرحاً بسيطاً، وطلبوا مني ان انزع ملابسي التي كنت ارتديها منذ ان خرجنا من الشام وهي : عبارة عن عباءة وزبون ومعطف ويشماغ وعكال وحذاء احمر (يمني حلب) فنرعتهما كلها سلمتهما لمن ضربني بخنجره ثم ركضت الى ثالثهم الذي هو اكبرهم سنا فشديت بشماغه وقلت له انا بوجهك فتدخل بالامر وشاجرهم وعندها تناولت حبل الجمل وهرولت به الى حيث القافلة التي عاد بهما الدليل (عاشج) وافهمهم ان في القافلة رجال دولة عراقيين وانهم من وراء فعلتهم هذه سوف يلاحقون ويصيبهم ما يصيبهم من اذى وعليه كفوا ايديهم عنا فذهبت الى جمل الشخص الذي سلبني ملابسي ووجدت ملابس في خرجه ولم يكن في ذلك الحين بالقرب من حبله فاخرجت ملابسي وعدت وارتديتها كاملة غير منقوصة.

وعند فجر اليوم الثالث أوعزنا الى المرحوم عبد الجبار ابو بهيجة بان يسبق القافلة بنفسه فقط الى ناحية كبيسة ويخبر السلطة الحكومية لترسل بعض افراد الشرطة لملاقاتنا . وعند المساء وصلنا عشيرة كانت تسكن قريباً من كبيسة وبمسافة مسيرة تقدر بستة ساعات فقط فقررنا المبيت لديها، خاصة ولم يبق عندنا لا ماء ولا طعام حتى اضطررنا ان ناكل علف الجمال، نظراً لنفاذ كل ما لدينا من طعام قررنا النزول لدى هذه العشيرة الخيرة وعند المساء جاء المرحوم عبد الجبار ابو بهيجة ومعه مفرزة من الشرطة متكونة من ستة أفراد مسلحين وعلى راسهم رئيس عرفاء يسمى (توفيق) وهو من بغداد ومن محلة السور، وكانت هذه المفرزة خيالة وفور وصولها الينا القت القبض على شطي اولاً ووضعته تحت حراستها حتى صباح اليوم الثاني حيث تحركنا الى كبيسة ومنها سافرنا بجمالنا وقافلتنا الى الرمادي (الانبار) وقطعت هذه المسافة من الشام الى الرمادي باربعة وثلاثين يوماً مشياً على الاقدام.

ومن الرمادي الى بغداد استغرقت المسيرة اربعة ايام، وهكذا تنفسنا الصعداء حتى وصلنا بغداد يوم 15/10/1921 ثم راجعنا الحكومة المحلية، وقد اقمنا الدعاوي من أجل استرجاع ما فقدناه من قبل هؤلاء (جماعة الغزو) وقد قدرت مفقوداتنا بحوالي (850 ليرة) ثمانمئة وخمسين ليرة عثمانية ذهب، فلم نحصل على شيء حتى يومنا هذا.

من مذكرات اللواء المتقاعد طاهر الزبيدي ( من حافة التاريخ )