عملية الاستاذ الدكتور خالد ناجي

عملية الاستاذ الدكتور خالد ناجي

د . عبد الهادي الخليلي

البداية:

أتصلت بي في يوم الأحد المصادف الواحد والعشرين من كانون الأول 2003 عقيلة الاستاذ خالد ناجي لتبلغني بتدهور حالته الصحية. بعد أن أكملت متطلبات العيادة توجهت الى داره الذي لايبعد كثيرا عن عيادتي في مدخل الاعظمية.

كان داره الذي سكنه منذ عقود يشبه تصميمه البيوت في تلك المنطقة والمثير للدهشة هو الارتفاع غير الاعتيادي للجدار الخارجي للدار والذي يبدو أنه هناك إضافة حديثة في أعلى الجدار وكان لذلك بسبب إعتداء أفرادا مجرمين كانوا قد تسلقوا الجدار قبل الزيادة في ارتفاعه ليدخلوا الدار ويعتدوا على أستاذنا لعدة مرات.إن المعتدين المجرمين قاموا بعملهم الدنئ قبيل الاحتلال. ومن ثم بعد الاحتلال هجم عليه أشخاص آخرون سرقوا من داره مجموعة من المصوغات الذهبية، أموال من صندوق الأمان وتحف ثمينة بالإضافة الى الإعتداء عليه.حينما علمت بتلك الاعتداءات تضائل أملي بمستقبل العراق حيث يعتدى على ذلك السامق وليس هناك من يحميه ويؤمن سلامته.

حين زرته في بيته مساء الأحد كما ذكرت سابقا وجدته بحالة غير طبيعية وكان متعبا جدا ومشوش الوعي قليلا وشكى من حالات اختلاج صرعية متكررة. علمت بأن أحد الزملاء من اختصاصيي طب الاعصاب كان قد زاره قبل فترة ووصف له علاجا للصرع على أن يزوره ثانية بعد اسبوع ولكنه لم يزره ثانية!!. لم تمنع أو توقف تلك الجرعة نوبات الصرع. رفعت مقدار الجرعة لذلك العقار وطمأنته ولكني وضعت في ذهني خطة عاجلة لعلاجه..

في يوم الاثنين زرته مساء وكانت حالته لاتخلو من خطورة وعندها قررت نقله الى مركز جراحة محجر العين في مستشفى الجراحات في الطابق الرابع عشر. حيث الغرف والرعاية في المركز أفضل مامتوفر في المستشفى وحتى خارجها في ذلك الزمن. نقلته سيارة الاسعاف الى الطابق. وفي يوم الثلاثاء وبعد استقرارحالته جزئيا تم إجراء فحص المفراس (CT Scan) تبين وجود نزف تحت الأم القاسية من السحايا الدماغية في الجانب الأيسر من الجسم. كانت الصور تبين حسب تقرير اختصاصي الأشعة بأن النزف كان في وقتين متباينين نزف قديم لعدة أسابيع وآخر حديث مايقرب الاسبوعين. .

كانت هناك مشكلتان يجب استشارة الاختصاصيين حولهما؛ أولا عدم انتظام ضربات القلب والأخرى استمراره باستعمال العقار المخفف للدم مانع التخثر (وارفارين Warfarin) والذي كان يستخدمه لسنين عديدة وهذا مما يسبب خطورة كبيرة ومضاعفات أثناء وبعد العملية من احتمال عدم توقف سريان الدم ن الاوعية الدموية التي تقطع خلال العملية. بالإضافة الى ذلك كله كان قد دخل في العام الثمانين من عمره فهو من مواليد عام 1923. ولكن بعد استشارة اختصاصيي القلب والباطنية واطمئنانهم على حالته مع إيقاف استعمال الوارفارين تقرر أن يكون يوم إجراء العملية هو السبت السابع والعشرين من كانون الأول 2003.

لم تكن العملية المزمع إجراءها بالعملية المعقدة جراحيا ولكن في مثل حالته الصحية وطبيعة العقاقير التي كان يتناولها بانتظام بالاضافة الى عمره تشكل بعض الخطورة. كان الحدث المهم هو إجراء العملية الى خالد ناجي نفسه وليس طبيعة العملية !!!! ويعتبر هذا حدث تاريخي لما للأستاذ خالد من تاريخ حافل وبصمات خالدة في مسيرة الطب والجراحة في العراق. وإن أية اختلاطات إذا ماحدثت لاسامح الله، أثناء وبعد العلمية تكون كارثة علينا جميعا. ولكن الأمل الكبير في أنجاز العملية بنجاح كان يحدو الجميع..

تمت الاستعدادات لإجراء العملية ودخل صالة العمليات التي تقع في الطابق الحادي عشر حيث شعبة الجراحة العصبية، وكانت الرهبة ظاهرة على وجوه وقلوب الجميع وأنا بضمنهم بطبيعة الحال. كتب المضمد المسؤول عن العمليات إسم أستاذنا وتاريخ إجراء العملية على السبورة في داخل الصالة كما هو المعتاد. وكانت التسجيل الفيديوي المعتاد في صالاتنا قد بدأ منذ دخوله الصالة ولازلت أحتفظ بالتسجيل الكامل للعملية..

تذكرت السبورة التي كانت خلف مكتبه في الردهة الثانية عشر في المستشفى الجمهوري والتي كتب بخطه “لاتنس أن تسأل لماذا» (Don’t Forget to Ask Why ). كان بكل حيويته ونشاطه وصوته الجهوري والان هو مسجى على طاولة العملية لاحول له ولاقوة وترك أمره للقدر. وأنا أقف والمبضع بيدي سرحت بي الأفكار هل هذا واقع أم خيال؟ تذكرت أول يوم دخلنا الردهة الثانية عشر ونحن طلاب في الصف الرابع ووقفنا حوله بنصف دائرة وهو يعلمنا ويتفاعل معنا ويبعث الثقة فينا حيث كنا يغلب علينا الخوف. وإذا بي أمامه وهومسجى أدعو الله أن تمر العملية بسلام. كنت أرى نفسي وأنا في ذلك الموقف قد تحملت مسؤولية كبرى ليس فقط أمام استاذي ومعلمي واستاذ ومعلم الأجيال.

بدأ التخدير يفعل فعلته وكان رئيس فريق التخدير الدكتور مازن شاكر خصباك وهو من أثق ثقة مطلقة بقدرته في التخدير. عند إكمال متطلبات التخدير أعطى المخدر إشارة البدء بالعملية. وضعت التأشيرات على فروة الرأس لمكان فتح الجمجمة بالقلم الخاص وكأنني سأقوم بعملية فتح الجمجمة وليس تثقيب الجمجمة فقط وهذا الاخير هو المتعارف جراحيا في مثل هذه الحالات. كان ذلك إجراء احتياطي نقوم به في كل حالات تفريغ خثرة تحت الأم القاسية حيث تكون هناك في حالات معقدة حاجة لفتح الجمجمة. أمسكت بالمبضع وقلت كعادتي دوما في بدء كل عملية جراحية: “بسم الله وبالله وعلى ملة رسول الله، بسم الله الرحمن الرحيم” وبدأت العملية. ومن المعروف إن تلك العملية ليست من العمليات المعقدة في اختصاصنا ولكنها في حالة استاذنا تحتمل المخاطر حيث أنه معرض للعديد من الاختلاطات كما ذكر سابقا. وبعد تفريغ كل الدم المتجمع داخل الجمجمة تمت العملية بعد حوالي الساعتين كما كان متوقعا وبدون اختلاطات ولله الحمد.

بعد العملية

نقل الاستاذ بعد انتهاء العملية الى العناية المركزة في شعبة الجراحة العصبية في الطابق الحادي عشرليمكث هناك ليومين حتى يسترد وعيه ونشاطه. وهناك في ردهة العناية تسابق الأطباء المقيمون ليحظوا بشرف رعايته ليلا ونهارا. تحسنت صحته ونقل الى مركز جراحة محجر العين للنقاهة.

وفرنا للأستاذ كافة وسائل الراحة والعناية والاهتمام بتوافد الزائرين للتهنئة بسلامته. وكان على رأس الزائرين الاستاذ زهير البحراني ووزير الصحة آنذاك الدكتور خضير عباس.

كان من أسعد الأوقات له ولي وللجميع مجئ ولده المحروس شعلان من الولايات المتحدة ليتمتع برؤيته وخدمته.

أقمنا له حفلا متواضعا بمناسبة شفائه حضره منتسبوا شعبة الجراحة العصبية ومركز جراحة محجر العين وغيرهم.

و بسبب إصابة الجانب الأيسر بالنزف داخل الجمجمة حدث ضغط على الفص الدماغي الأيسر مما سبب عدم كفاءة في نشاط مركز التكلم والتعبير بما يدعى “بالحبسة” الكلامية أي إنه يصعب عليه التعبير عما في ذهنه. وكان ذلك شاملا التعبير الكلامي والتعبير عن طريق الكتابة. وبعد العملية بأيام تمكن من التعبير ولكن ليس بكامل الوضوح وقد تفضل بكتابة بعض الملاحظات بخط يده. وفي أدناه إحدى تلك الملاحظات وتوضيحي لها بعد “التداول” معه حول ماكتب.

ترك الاستاذ خالد المستشفى وهو بصحة جيدة وتوجه الى داره برعاية زوجته وولده شعلان وشعرت بالسعادة في حينها لأني عملت كل جهدي لأوفي جزء مما قدمه الاستاذ خلال عقود عديدة من تربية الأجيال.

الخبر المؤلم

غادرت الى كندا وبقيت على اتصال بولده شعلان الذي يسكن في فرجينيا، وأخيرا جاء خبر الوعد الحق وغادر الى جوار ربه في اليوم الثالث من شهر مايس/ أيار عام 2008 وكان بعد خمس سنوات من إجراء عمليتي له وبعمر خمس وثمانون عاما. وبقيت ذكرى الاستاذ خالد خالدة في تاريخ الطب العراقي.