زيارة البابا.. لقاء الشرق والغرب

زيارة البابا.. لقاء الشرق والغرب

صباح محسن كاظم

في مهد الحضارات والنبوات وبدء الكتابة والتوحيد والقانون الأول بأور؛ يترقب العالم اللقاء الأول التاريخي حينما يزور البابا العراق، القلوب تصافحه والعقول بمدينة الفكر والثقافة والفن ومقارعة الباطل بكل عهد وزمن،

كان طلب كرسي البابوية في العام 1999 زيارة أور وإقامة القداس والتمهيد للحج المسيحي لكن الدكتاتور المجرم صدام رفض ذلك، بعد الحرية 2003 كنا نطمح لتلك الزيارة وفي العام 2010 تحديداً ناشدت كمدير مركز النور الثقافي بالسويد بأول مهرجان دولي بأور بحضور أدباء الخارج والداخل بطلب إدخال آثار أور والأهوار باليونسكو وقد تحقق بعد 4 أعوام، بمناشدات أخرى من مؤرخين وكتاب لكن للأسف لم تهتم كل وزارات الثقافة بالأمر وبقي الإهمال يتفاقم ويتراكم، وبعد تعيين الآثاري عامر عبد الرزاق مديراً لمتحف الناصرية عاد الاهتما م بأور والمتحف مجدداً مع عمل جميع عشاق الآثار بمفتشيَّة ذي قار والأستاذ علي كاظم سادن أور.

رجل السلام البابا فرنسيس تغرد له البلابل الزاملية والطيور الأهوارية والرقم الطينية وهو يبتهل للرب بالسلام من أرض أور التوحيد والنبي إبراهيم الخليل «عليه السلام» نسأل الله السلام للناصرية المباركة التي قدمت كل شيء للعراق والإنسانية وأنْ تطوى مرحلة الحرمان وكفى نزف الدماء للأبرياء من زمن البعث الدموي وما تلاه بالتظاهرات المناشدة بالحقوق والقضاء على البطالة والعدل بالتعيين، فمن يحكم جميع أبنائها والمسؤوليات بقيادتها، لذلك وجب الوفاء، والبناء، والأمن والأمان، والقضاء على الحرمان في ظل أسوأ جائحة تشهدها البشرية «كورونا» القاتل الصامت.

أور التي أحمل عشق ترابها بكل العواصم والمؤتمرات وكتبت في آثارها عشرات المقالات وقدمت عشرات الندوات أهمها في تونس حول كتاب العلامة التراثية في الأزياء السومرية رموز وخبايا.. في الناصرية عاش جميع المسيحيين بعز وود وكان جيراننا بيت كوروكيس وكذلك أسرة جوزيف حتى الأحفاد بعد غربتهم يحنون لمدينتهم الأم.. لا بُدَّ من ذكر أهم الإنجازات هو استخدام الكتابة والتدوين.. فمن يزور مدينة أور يلاحظ ذلك على جدران وسلالم الزقورة، النقوش الواضحة على جدران الآثار، في المدافن الملكية أعجبت المستشرقين والباحثين والمؤرخين والسواح الذين زاروا تلك الآثار؛ لما تدل عليه من عظمة الفكر السومري، الرقيم الطيني الذي خط عليه بتوقيع الملك ابيسن قرب قصر شولبكي أور أهم المدن السومرية.

إنَّ الآثار التي اكتشفت في مدينة «أور» تعكس التراث الثقافي القديم، فقد استخدم السومريون مبادئ الري وطوروا الزراعة التي كانت أساس حياتهم الاقتصاديَّة، واستعملوا المعادن في دورهم الحضاري الأول، إنَّ ما يميز أور هي ولادة النبي إبراهيم الخليل (ع) أبو الأنبياء وانطلاقه في رحلته التوحيديَّة من هذه الحضارة الى المدن والدول الأخرى.

تقع أور على بعد 365 كيلو متراً الى الجنوب الشرقي من بغداد وعلى مسافة 18 كم من مدينة الناصرية. ومن المنقبين الأوائل هو وليم لوفتس، فقد زارها مع جماعة من الأتراك في العام 1850 ثم أعقبه في الحفر القنصل البريطاني في البصرة تايلر، حيث حفر من (1852 – 1854) وبالأخص في الزقورة أحد أبرز رموز الحضارة السومريَّة، وفي العام 1918 أوفد المتحف البريطاني كمبيل تومبسن والدكتور هول في أرجاء مختلفة من المدينة وخاصة القصر الكبير - قصر شولكي - وتعدُّ حفريات هذا المنقب بداية التنقيبات العلميَّة لمدروسة في العراق، وكذلك ترأس ليونارد وولي بعثة آثاريَّة مشتركة من المتحف البريطاني ومتحف جامعة بنسلفانيا في بداية العام 1922 واستمر حتى (1933 – 1934) واضعاً عدة مؤلفات مهمة تخص مدينة أور، إذ قسم الباحثون العصور التي مرَّتْ بتاريخ وادي الرافدين الى أطوار: الطور الأول: عصر فجر السلالات الأول ويلحقونه بالعصر الشبيه بالكتابي ويمتاز من الناحية الأثرية بأختامه الاسطوانية التي تشبه نقوشها ما يسمى بزخرفة النسيج وينسب الى هذا الطور نوع من الفخار القرمزي وجد في ديالى ويحتمل أنه يعاصر الفخار المكتشف في نينوى. وتمتاز هذه المرحلة من الناحية العمرانية باستعمال نوع من اللبن أطلقت عليه تسمية (المســــتوي - المحدب).

الطور الثاني: بدأ السومريون يدونون بالكتابة المسمارية حياتهم وظهر واضحاً في سلالة كيش الأولى والوركاء الأولى ويمكن تحديد ذلك بحدود (2700 - 2550 ق.م).

ومن الآثار الخاصة بهذا الطور جملة من الأواني الفخارية والكؤوس والأقداح والجرار الكبيرة، ومن المؤكد كذلك برز فن النحت في عصر فجر السلالات الثاني، إذ ظهرت على جدران المعابد نماذج تسر الناظر بسبب قدرة الفنان السومري على التخيل والإبداع، وقد تقدم فن العمارة في ابنية المعابد والقصور كما في تصور (كيش وأريدو)، وبرزت أسماء بعض الآلهة التي خصصت لعبادتها وهذا يعني البحث عن الشعائر والطقوس الدينية وظهور طبقة الكهنة.

الطور الثالث: بلغت حضارة وادي الرافدين أرقى مراحلها الحضارية وأوج ازدهارها وقد وجدت آثار نفيسة في ديالى وتعود القبور الملكية الشهيرة في أور الى تلك الحقبة وقد ترك السومريون نماذج من الأبنية كالقصور، والمعابد، والمقابر تشير الى تقدم فن العمارة وكذلك التعدين من خلال الأجهزة المكتشفة كأدوات الحرب وأدوات الزراعة، ففي سلالة أور الثالثة التي تمثل العصر الذهبي في تاريخ (أور) أصبحت تمثل العاصمة السياسيَّة والدينيَّة للسومريين في فترة (أور - نمو) والذي حكم (2113 - 2096 ق.م) كما أشار الى ذلك محمد علي الصيواني في كتابه (أور)، وأشهر الملوك الذين قاموا بإنجازات حضاريَّة في مدينتهم هم (أور - نمو والابن شولكي واحفاده امر - سن واخرهم ابي - سن من (2029 - 2006) ق.م.

ويعدُّ أور - نمو أول مشرّع في تاريخ العراق القديم قبل حمورابي بنحو ثلاثة قرون، إذ قنن هذا الملك السومري قانونه ليجعل قوانين الآلهة تسود البلاد واستطاع ملوكها إنشاء امبراطورية واسعة امتد نفوذها الى أجزاءٍ كبيرة من الشرق الأدني وبلاد عيلام وسواحل الخليج العربي وآسيا الصغرى، وأبرز المعالم التي تركوها هي البرج المدرج (الزقورة) الخالدة التي تمثل أبرز آثار وادي الرافدين وهي محط اهتمام المنقبين والآثاريين والسواح من كل أرجاء العالم.

كانت زيارتي الأولى الى أور في العام 1970 ضمن سفرة مدرسيَّة لتلك الآثار ودهشنا لرؤية الاهتمام البالغ من السائحين لدراسة آثار العراق القديم ونحن نتعامل مع تلك الآثار دون اكتراث ولا مبالاة من القائمين عليها وصيانتها.

أول من نقب فيها القنصل البريطاني في البصرة - تايلر - عام 1853 بطلب من المتحف البريطاني، واكتشف في خرائبها وأنقاضها إسطوانات فخارية منقوشة بكتابة مسمارية تعود الى الملك البابلي نبونائيد (550 ق.م) وأعقبه وولي فقام بتحريات واسعة ودقيقة حول هذه البناية الشاهقة متتبعاً مراحل بنائها وقد وضع مجلداً خاصاً.. يرى المتتبع لآثار وادي الرافدين التقدم في فن العمارة وإنشاء المدن من عهد الوركاء وكذلك في بابل وعقرقوف ونفر والمدن الآشوريَّة.

لا ريب أنَّ بناء هذا الأثر التاريخي الشاخص لحضارة سادت في العراق القديم يمثل روائع الفن والتخطيط والعمران، فبناء الزقورة من 3 طبقات، يعلوها معبد صغير اندثر أثره بسبب عوامل التعرية والرياح والأمطار وعدم صيانته وعنــــدما تلقــــي بالنظر الى الجهات الأربع ترى بقـــــايا آثار المدينة السومرية التي كانت في يومٍ ما عاصمة الألق الحضاري.

لكنَّ أور تستصرخ الضمائر الإنسانية للاهتمام بها وجعلها محط أنظار العالم والذي يصبو للحج الإبراهيمي من كل بقاع الدنيا، والرغبة للوقوف على تخوم الريادة الحضاريَّة، فمرايا الحقائق ساطعة تستدعي التوجه إلى منابع التوحيد وإشراقاته وأنواره الإبراهيميَّة في تلك التخوم صانعة الحدث التاريخي المدوي بأحشاء الأزمنة.

فهنا المرحلة الفاصلة بين الوثنية والتوحيديَّة.

الحدث الذي جلجل في أسماع البشرية أن للكون خالقاً، لينطلق الشعاع وتستمر النبوات تنهل وترتشف سلسبيلاً عذباً من أصداء تلك البقاع، أرض الرسالات ومهد النبوة مرّ بها الصحابي ابن عجلة وهو يحمل رسالة النبي محمد (ص) لفارس ويتوفى هنا، ولا زال الإهمال يصيب جغرافية المكان بين سوق الشيوخ والناصرية، وعلى مشارف أور (مقام أمير المؤمنين) وهو قادم من الكوفة إلى البصرة، وقد طالبت وناشدت مراراً أن يصبح مناراً لكل موحد، أيعقل أنَّ المقام يشيده أحد الموالين وبنفقة شخصية يوصل له جميع الخدمات –الحاج غانم جبار!؟ لا دور لأي جهة بالحفاظ على تلك المعالم الآثارية بالناصرية.. قلوبنا وأرواحانا ترحب بقدوم البابا برحلته التاريخية لأور، ولقاء السيد السيستاني رجل السلام، وزيارة كنيسة النجاة وما يروق له بأرض الرافدين.