بتهوفن .. الموسيقار الأصم

بتهوفن .. الموسيقار الأصم

سلطان الخطيب

يعد بيتهوفن أشهر موسيقار في تاريخ الموسيقى العالمية ومعجزة من معجزات التأليف الموسيقي . ولا شك أن هناك ظروفاً ما جعلت منه الأشهر بين جيله والأجيال التالية من الموسيقيين . ومن المؤكد أن بيتهوفن كان مبدعاً لا يضاهيه أحد في الإبداع الموسيقي فهو أول من حرر الموسيقى من بلاط الملوك والأمراء والكنيسة وأول من ادخل الغناء في السيمفونية مع أنه كان أصم لا يسمع موسيقاه.

رغم شخصيته الثورية المتمردة على التقاليد البالية التي كانت تقلل من شأن الموسيقى فقد عانى من آلام شديدة بسبب مرضه وعدم تفهم الناس لحالته وقد كتب بذلك يقول : «ولدت حاد المزاج مرهف الإحساس لمسرات الحياة والمجتمع، ولكنني سرعان ما اضطررت إلى الانسحاب من الحياة العامة واللجوء إلى الوحدة، وعندما كنت أحاول التغلب على ذلك كنت اصد بقسوة ومع ذلك لم يكن بوسعي أن أقول للناس ارفعوا أصواتكم اصرخوا فأنا أصم. آه أيها الناس الذين ترونني كئيبا، فظ الخلق، إنكم تظلمونني هكذا، انتم لا تعرفون السبب الغامض لسلوكي هذا، فمنذ سني الطفولة تفتح قلبي وروحي على الرقة والطيبة، وكان هدفي دوما الوصول إلى الكمال، ولكن فكروا في أنني أعاني منذ سنوات من الم لا شفاء له، زاده أطباء عاجزون.كل هذا كاد يدفعني إلى اليأس وكدت أضع حدا لحياتي البائسة، إلا أن الفن، الفن وحده هو الذي منعني من ذلك.»

كونشيرتو البيانو الرابع: فشل بيتهوفن في جميع علاقاته الغرامية لذا إراد التعويض عن واقعه المر وان يخلد أمنياته في المقطع الثاني من كونشيرتو البيانو الرابع الذي يروي قصة اورفيوس الممثل بآلة البيانو اذ يحاول إقناع آلات الإغريق الممثلة بآلات الاوركسترا باسترجاع حبيبته من عالم الموتى وإعادتها إلى عالم الأحياء لشدة حبه لها، الحوار يدور بين آلة البيانو وآلات الاوركسترا، نهاية القصة الإغريقية بعد كل المخاطر التي مر بها اورفيوس يفشل في استرجاع حبيبته، لكن الرغبة الملحة عند بيتهوفن لإنجاح قصة حب من عمل يديه وتعويضا عن فشله الدائم في علاقاته العاطفية، إذ يعيد بيتهوفن لأورفيوس حبيبته وينتصر الحب وينتقل الفرح وأجواء الاحتفالات إلى المقطع الثالث من الكونشيرتو.

السيمفونية الثالثة .. الإعجاب بنابليون

كان بيتهوفن معجباً بشخصية نابليون الصاعدة وأفكاره النيرة، ومن كثرة إعجابه شرع بتأليف السيمفونية الثالثة ليهديها لنابليون، وكان من المقرر ان يسميها بونابرت، وكتب الإهداء إلى بونابرت على الصفحة الأولى من السيمفونية، فبعد الانتهاء من تأليف المقطع الأول من السيمفونية، توّج نابليون نفسه إمبراطورا على فرنسا، فانهارت صورته عند بيتهوفن وشعر بأنه كان مخدوعاً به وانه شخص أناني ومصالحه وأهواؤه الشخصية فوق الجميع وهو متعطش للحروب. عندها غضب بيتهوفن غضباً شديدا وأراد تمزيق النوتات لولا أصدقاؤه الذين منعوه من ذلك واكتفى بشطب اسم بونابرت..

السيمفونية الخامسة ..العداء لنابليون

بعد ان اتخذ بيتهوفن موقفاً معادياً لنابليون، كذلك اتخذ موقفا ضد كل من تنازل عن مبادئه كي يتزلف ويتقرب من نابليون، اذ وقف وقفة جريئة ضد التيار الديني الكنسي لتنازلهم (حسب رأيه) عن مبادئهم وانسياقهم وراء السلطة السياسية لتحقيق أهدافهم. فمن أهم العناصر اللاهوتية الكنسية هي الثالوث المقدس، فأراد بيتهوفن أن يعبر عن استيائه، لذا ألف سيمفونيته الخامسة المبنية على أربع ضربات قوية بدلا من الرمزية الثلاثية إضافة إلى ذلك أن الضربة الرابعة طويلة للتأكيد على كسر الثلاثية ..

السيمفونية التاسعة ..آخر سيمفونياته

اشتد مرض بيتهوفن وشعر بأن أيامه معدودة، لذا شرع بتأليف آخر سيمفونية له وهي التاسعة وكأنها وصيته الأخيرة وإن العبقرية الخارقة لبيتهوفن مكنته من تأليف هذه السيمفونية وهو أصم بالكامل. وتعد هذه السيمفونية من أهم سيمفونياته وتعد منعطفاً مهماً في تاريخ السيمفونية العالمية لكثير من الأسباب أهمها أنه أول مَن تبنى الحان سيمفونية على سيناريو قصصي وهذا ما يطلق عليه (الموسيقى المبرمجة).

والسيناريو موجود في المقطع الأخير او الرابع من السيمفونية، اذ هنالك لجنة ممثلة أو مكونة من الآلات الوترية مهمتها اختيار لحن للمقطع النهائي للسيمفونية أو لحياته، تجتمع اللجنة وكأنها تتناقش بطريقة فوضوية حيث لا يوجد لحن مميز لهذا النقاش سوى أصوات غاضبة مبعثرة ، اذ يتجزأ لحن المقطع الأول من السيمفونية بأن يقدم نفسه مرة أخرى في المقطع الرابع أمام اللجنة بثقة وبشكل حالم، وقبل أن ينهي جملته الأولى اذ باللجنة تثور وتغضب كونه لحناً مكرراً.

أما لحن المقطع الثاني من السيمفونية يتسلل ويقدم نفسه أمام اللجنة ويقفز كالمهرج بفرح ومرح وإذا بدفعة من اللجنة تطيح به خارج السيمفونية، أما لحن المقطع الثالث فيدخل بشكل وقور حيث تعاملت معه اللجنة بكل احترام رغم رفضها له كونه مكررا ولا يرتقي إلى روح اللحن الأخير ، بعدها ازداد غضب اللجنة لعدم اجتياز اي لحن الاختبار.

وفجأة يباغتها لحن غاية في البساطة مكون من خمس نوتات فقط، أخذت اللجنة اللحن وجربته ثم مررته لجميع آلات السيمفونية اذ لاقى استحسان الجميع، وفي قمة الفرح والإيقاع الراقص يحدث شيء من الفوضى الموسيقية وتتشتت الألحان بطريقة غير منطقية، حيث ينتقل اللحن إلى الصوت البشري وتعتبر هذه اللحظة التاريخية تغيير في مجرى السيمفونية، حيث يدخل الصوت البشري لأول مرة في السيمفونية، بعدما كان المتعارف عليه إن السيمفونية للآلات فقط.

أما كلمات السيمفونية هي للشاعر شيللر :

« كفى يا أخواني هذا الأنين

و ارفعوا الصوت باللحن السعيد

فشعلة السعادة لا تطفأها السنون

كم هو جد سعيد

من استطاع كسب صديق

هؤلاء الذين من أحبوا مخلصين

ليأتوا إلينا سعداء

أما الذين بخلوا بقلوبهم اليوم عنا يعميهم البكاء

لنعش كالشمس المشرقة مبتهجين

ولنسرع الخطى عبر الطريق كالجنود البواسل الظافرين

ابعثوا بالحب طاهراً صوب الملايين

وبقبلات السلام حول العالمين

أن فوق هذا النجم المتألق

يوجد إله الخلق أجمعين.»

امبراطور الموسيقى

كان بيتهوفن متعاليا على الجميع حتى أن هنالك حادثة شهيرة معروفه عنه عندما كان برفقة الكاتب والفيلسوف (غوتة) وصودف إن مر إمبراطور النمسا في المكان الذي كانا فيه ، فانحنى (غوتة) للإمبراطور ولم ينحن بيتهوفن فسأله غوتة عن سبب عدم انحنائه لتحية الإمبراطور فكان جواب بيتهوفن إذا كان هو إمبراطور النمسا فأنا إمبراطور الموسيقى.