هل كان يعرف سر وفاته ؟ .. موسى الشابندر ووفاة الملك فيصل الأول المفاجئة

هل كان يعرف سر وفاته ؟ .. موسى الشابندر ووفاة الملك فيصل الأول المفاجئة

سعاد عبد الجبار كاظم علي

كان الملك فيصل مريضاً بعد جهاد مستمر لمدة عشرين سنة مرَّ خلالها بأنواع المحن والمصائب وذاق أثناءها شتى المرارات، وحوداث وأمور أخرى مثلها أنهكت قواه، فبعد أن مرّ بكل ذلك دخل العراق عصبة الأمم عام 1932،

وظن الملك أنه وصل أول مرحلة من مراحل الحكم الحقيقي واستقلال البلاد، وبعد زيارة الملك لبريطانيا عام 1933 على اساس المساواة بين الملوك جاء إلى برن ليرتاح ويستشفى وكان بحاجة شديدة إلى الراحة والتداوي، وذكر موسى الشابندر “ بعد وصول الملك إلى العاصمة السويسرية برن طلباً للاستشفاء، وكان الإعياء بادياً عليه، حيث نزل في فندق بللفو المطل على نهر (الار)، وهناك بدا الملك على الرغم من وضعه الصحي، يستقبل مراسلي الصحف والعديد من الأصدقاء يبدو بتصريحاته محاولاً الرد على الدعايات المظللة ضده وضد العراق وحكومته على اثر الأحداث التي رافقت القضية الآثورية .

وصف موسى الشابندر حالة الملك فيصل الاول في تلك الليلة : “ كان القلق والانفعال ظاهر على وجهه، وتميزت تصريحاته بشدة اللهجة وكان يضرب بيده على الطاولة بقوة، وهو يتحدث مع الصحفيين، فقد كان قد تلقى سيلاً من التهديدات من الحكومة البريطانية بسبب قمع الحكومة العراقية ونائب الملك [الأمير غازي] لتمرد الآثوريين. طلبت الحكومة البريطانية منه العودة فوراً إلى بغداد والأخذ بزمام الأمور بيده وإلاّ سوف يتعرض لنتائج وخيمة، كان ذلك إنذاراً من قبل وزارة الخارجية البريطانية إليه، كما أحدث إصرار الحكومة على موقفها وعدم إصغائها لأوامر جلالته تأثيراً سيئاً لدى الرأي العام البريطاني وغيرهم لاسيّما بعد تهديد الحكومة البريطانية بإعادة النظر في علاقاتها العهدية مع العراق، وقد قضى الملك ثلاثة أيام على تلك الحال وهو يزداد تعباً وتزداد صحتهُ سوءاً، وبعدها شاءت الأقدار أن يكون موسى الشابندر أحد شهود وفاة الملك فيصل الذي ذكر في كتابهِ: “حيث أفاق من نومه مذعوراً عند وفاة الملك إذا بالمِسْ رِيِدْ تطرق الباب بقوة وتكلمه من وراء الباب قم يا مستر شابندر، نوري باشا يريدك، صحة الملك غير حسنة فنهض موسى الشابندر من سريره مندهشاً – دخل الحمام غسل وجهه ولبس ملابسه والمِسْ رِيِدْ تزيد من طرق الباب بقوة وهي تقول: أسرع الملك يتوفى».

أسرع موسى الشابندر إلى غرفة الملك فوجد كل من رستم حيدر يتمشى في الكليدور صامتاً وفي الغرفة الملك علي يبكي عليه ويضرب على رأسه قائلاً: “ أنظر يا موسى ... أنظر إلى فيصل.

رأى موسى الشابندر ورجاله نوري السعيد ورستم حيدر، والملك علي، وتحسين قدوري، والأمير شكيب أرسلان، وإحسان الجابري، والأمير عادل أرسلان المخلصين حائرين ينظر بعضهم إلى بعض غير مصدقين بما وقع “ثم رأيتهم يبكون كالأطفال إذ فقدوا أعز ما لديهم” ويشبه موسى الشابندر الملك فيصل “ بصقرٍ جميل يحلق بمفرده، يرى من ارتفاعه الشامخ كل كبيرة وصغيرة من دون أن يمس أفقه الوسيع ضيق تلك الدنيا وصغائرها”. موضحاً أنه رآهُ عظيماً ومهيباً على فراش موته في إحدى غرف فندق بللفو، كما كان فوق عرشه في بغداد. وكان موسى مع الملك فيصل وزملائه قبل وفاته بيوم واحد وكان فيصل يتحدث مع الأمير عادل أرسلان فنادى فيصل موسى وقال له “ أبا شرارة قل الحق من أكبر أنا أم عادل؟ “ وقبل أن يجيب ذكر فيصل “ كان عادل مبعوثاً عندما كنت لم أزلْ أدرس في استانبول “ فوجده موسى كمن يطلب المعونة على ادعاء الأمير عادل، فأجابهُ دون أي تردد “ جلالتك أكبر وإن كان الأمير عادل قد ولد قبلك “ فقال فيصل وهو يطبطب على كتفهِ : “ بارك الله فيك يا أبا شرارة، لقد قلت حقاً.

ذكر موسى الشابندر “ لما مات فيصل في فندق بللفو عام 1933 كان رستم حيدر تلك الليلة يتمشى معي في الممر أمام غرفة الملك فيصل ويخاطبني من حين لآخر قائلاً : “ هذا من سوء حظ العرب، وبعد وفاة الملك اقترح موسى الشابندر على رستم حيدر كتابة وصية متضمنة آخر كلمات الملك الراحل ،عندما فاتحَ موسى الشابندر رستم حيدر حبذ رأيه ورتبها معه على شكل برقية متضمنة وصية الملك فيصل المؤكدة لوجوب اتحاد كلمة وتوحيد الصفوف وعرض الأمر على وزير الخارجية نوري السعيد فوافق وتم إرسالها، وهكذا كانت أصل البرقية التي نشرت في الصحف، وتم التعليق عليها وتناولتها صحف العالم العربي، وكانت بعنوان آخر ما تفوه به الملك الراحل “ أنا مرتاح، قمت بواجبي وخدمة امة بكل قواي، ليسر الشعب بعدي بقوة واتحاد.

في ذلك دلالة على وطنية وحب وإخلاص موسى الشابندر لبلده الذي لم ينسَ العراق حتى في ذلك الظرف العصيب ، فضلاً عن رغبته بتماسك أبناء الوطن الواحد من خلال تذكير الشعب العراقي وعلى لسان المغفور له الملك فيصل بالقوة والاتحاد. يذكر موسى “ عندما أتى إليه نوري السعيد وذهب معه إلى غرفة مكتبه وأخذنا نرسل البرقيات إلى بغداد ولندن واتصل بجعفر العسكري في لندن وأخبره بالنبأ المفجع بينما كان الجميع مشغولين بإرسال البرقيات والمحادثات .

أرسل نوري السعيد وزير الخارجية البرقيات واتخاذ الإجراءات اللازمة في تلك المواقف، مثل إرسالها إلى بغداد، والاتصال بالجهات الرسمية السويسرية، لترتيب إجراء نقل الجثمان وكل الأمور بدت طبيعية باستثناء مهمة واحدة أصر نوري السعيد على تنفيذها، وهي إيفاد أحد أعضاء الوفد المرافق إلى دار المفوضية البريطانية لإبلاغها بوفاة الملك في الساعة الواحدة بعد منتصف الليل، وقد اختير موسى الشابندر لتلك المهمة، ولم تفلح جهود البعض من أعضاء الوفد بإقناع نوري السعيد بتأجيل المهمة إلى الصباح، ولم يكن هنا سوى تحرك موسى الشابندر صوب دار المفوضية البريطانية، وعند وصوله إليها وبعد انتظار طويل خرج رجل مخمور جهد موسى الشابندر في إفهامه طبيعة المهمة التي جاء بسببها في ذلك الوقت المتأخر من الليل، وأخبر الشابندر أن الوزير البريطاني في ذلك الوقت يسكن فيلا خارج المدينة وأنه بوضعه في تلك اللحظة لا يستطيع إخبار موسى الشابندر عن اسم الشارع أو رقم الدار وأنه يعرف فقط الطريق الموصل إليه ولم يكن بيد موسى الشابندر سوى السير في الطريق الذي أشار إليه الرجل المخمور في محاولة لبلوغ سكن الوزير البريطاني في ذلك الوقت، وبعد طول عناء استطاع معرفة الفيلا وفي الساعة المبكرة من النهار الساعة الرابعة صباحاً وحين قرع الباب أطلّت امرأة وسألت من القادم وما هي حاجته، صاح الشابندر لقد مات الملك .. وهنا صرخت المرأة بأعلى صوتها ونزلت مهرولة وحدث هرج ومرج في الدار حيث انبرت الأضواء وخرج من بها إلى الخارج، ولما أخبرهم موسى الشابندر أن المقصود هو الملك فيصل الأول قالت المرأة “آسفة كنت أظنه الملك جورج الخامس ، وبعدها قابل موسى الشابندر الوزير البريطاني واعتذر له عن الإزعاج الذي سبّبه في مثل تلك الساعة وأبلغه “ أن ذلك كان نتيجة إصرار نوري السعيد على ضرورة إبلاغه خبر وفاة الملك فيصل.

رجع موسى الشابندر إلى الفندق وهو لا يدري ما وراء تلك المهمة الغامضة التي أصرّ نوري السعيد على القيام بها، ومن جهة أخرى استغرب موسى الشابندر من تصرفات نوري السعيد إذ أوضح في تقرير المفوض البريطاني في برن بأن جثة الملك فيصل قد حنطت بسرعة مريبة بإشراف نوري سعيد ونقلها إلى العراق برفقة الملك علي ويذكر موسى الشابندر “ كان نوري السعيد قد استفسر من الوكيل المفوض البريطاني في برن فيما إذا كانت السفن الحربية جاهزة لنقل الجثمان إلى مصر أو فلسطين وأن نوري سعيد مستعد لاتخاذ ما يلزم من الإجراءات لنقل الجثمان ليلة الحادث على ظهر سفينة تجارية ويبدو إصراره على تحنيط الجثة بسرعة ونقلها كانت في محاولة منه لإخفاء شيء ما يمكن أن يوضحه أي فحص طبي للجثة.

عن رسالة

( موسى الشابندر ودوره الثقافي والسياسي )