شريف ونوال تجربة وحياة

شريف ونوال تجربة وحياة

يذكرنى كتاب حامد عمار ومسيرة حياته الشاقة من القرية إلى أعلى ذرى النخبة المصرية، بكتاب آخر صدر عن اثنين من نجوم النخبة أيضا هما الدكتور شريف حتاتة المناضل السياسى والكاتب الأديب، وزوجته الدكتورة نوال السعداوى الناشطة بالتعبير المعاصر - والروائية، كتبته مريدة معجبة بكليهما هى الدكتورة أمل الجمل.. والأسلوب الذى اعتمدته المريدة، يقوم على إجراء حوار معهما، استعدت له جيدا، بقراءة أعمالهما الأدبية، بشغف وإعجاب، ومتابعة نشاطهما العام، بتقدير لا يخفى على القارئ.

ولهذا خرج الكتاب فى النهاية، ليكون من ألوان السيرة الذاتية لهما.. وشريف حتاتة من نفس جيل حامد عمار، ولكنه قدم من نبع مختلف تماما، من طبقة إقطاعية، واختار طريقا مختلفا عن طبقته وعن الطريق الذى سار فيه حامد عمار.

اختار لتحقيق نهضة مصر، طريق الثورة التى تقتلع النظام القديم من جذوره.

ودفع بهذا الاختيار ثمنا غاليا من عمره وراحة باله ونجاحه العملى الذى كانت تلوح بشائره من أولى طب، حيث كان أول دفعته.

وفى نفس السنة 1947 الذى كان شريف حتاتة، يطير من السعادة لقبوله عضوا فى تنظيم شيوعى، كان حامد ينتهى من دراسة معهد التربية، الذى كان يعد المدرس لتعليم طلابه وفقا لمناهج التربية الحديثة، وهو المعهد الذى أصبح فيما بعد كلية التربية.

وحين يسافر عمار إلى لندن لدراسة الدكتوراه، كان شريف يتنقل بين سجون مصر أو بين قرى الوجه البحرى مختفيا بالجلابية يحرض الفلاحين على الثورة.

ومنذ سنوات الأربعينيات، كانت نوال السعداوى تنطلق كالسهم، من قرية كفر طحلة بالقليوبية، قرية يتحكم فيها الفقر والجهل والإقطاع.ولولا الأب الذى نجا من العمل فى الأرض بانخراطه فى الطبقة المتوسطة، بحصوله على قسط من التعليم، ولولا تفوق الطفلة نوال فى المدرسة، ما نجحت فى اختراق كل هذه الأهوال، والوصول إلى كلية الطب. لتعود إلى قريتها طبيبة فى الوحدة الصحية، لا تعالج المرضى فقط، ولكن تحارب الجهل والخرافة وسيطرة الرجال.وكشف لها العمل فى القرية ما يفعله الجهل وسيطرة الخرافات والتفسير الدينى الرجعى والدايات والحلاقون بحياة الناس وبالذات النساء.

ورأت رأى العين أضرار عملية الختان وفض البكارة وما تفعله بجسد الإنسان وروحه من تشوهات قد تستمر مدى الحياة.

ونذرت حياتها وجهودها لمقاومة هذه الأوبئة بكل الوسائل الممكنة، كتبا ومحاضرات وشروحا وجمعيات. حتى راكمت وجهة نظر متكاملة تنظر إلى هذه المعتقدات فى ضوء نظرية شاملة تستحضر جذور النظام الطبقى والأبوى.وفى سنة 1964 يلتقى شريف ونوال فى وزارة الصحة، الأول خارج من السجن لتوه بعد أربعة عشر عاما وراء أسواره، والثانية تحارب على أكثر من جبهة.ويتشارك الاثنان.. تتوطد المشاركة بالزواج، وبالميدان المشترك فى السياسة والأدب وتدعيم حقوق المرأة وتوسيعها.

وكتاب أمل الجمل، يروى قصة البطلين ودورهما وإنجازهما العام والخاص، ويركز كثيرا على تجربة زواجهما، والتى يريان فيها شكلا من أشكال النضال، ومثلا يقدمانه للمجتمع كله، على علاقة لا تقوم على سيطرة الرجل، وتعتمد مبدأ المساواة، علاقة يحقق فيها كل من الزوجين نفسه بحرية، ويجد من الآخر كل تعضيد وعون، ولا يمانع أن يكون لرفيقه أصدقاء من الرجال والنساء.

وفى الكتاب لمحة من الصراحة - أقول لمحة - تكشف فى نفس الوقت عن مدى التعقيد الذى يتسم به بناء علاقة زوجية راسخة.ومن الذى يجرؤ على القول إنه لم يشعر بالإشباع الجنسى عبر سنوات وتحت سقف الزوجية، إلا إذا كان واثقا من نفسه.

وأى اهتمام بقضية المرأة، فى بلد متخلف، وبالذات حين لا يكون مظهريا أو سطحيا، يستحق كل تقدير.. وقد سعى الزوجان وحاولا بإخلاص، أن ينشرا الوعى بقيم متقدمة، وتوسيع دائرة الذين يعتمدون على مرجعية ليست غيبية.

ولا أكتم القارئ، مع كل التقدير لهذا الدور، أنهما يبالغان كثيرا - وبالذات الدكتورة نوال - فى تأثير هذا الدور، وفى قدرة تجربتهما الخاصة على التأثير والإلهام.وبالتالى فى حجم السعداء ومحاولات التقييم، التى يواجهانها من الجميع، الحكومة والمعارضة والنقاد والتيارات المحافظة.

وتشاركها مؤلفة الكتاب فى هذه المبالغة، ولا أعرف هل هى مؤهلة لتحكم بحسم (على كثرة الكاتبات النساء فنوال هى الممثلة الأولى للرواية النسوية العربية والكاتبة التى أعطتها منظورها الأقوى).

حين تقرأ مثلا : (إننا بنينا علاقة على مدار السنين، أقوى جدا من أى علاقة رأيتها أو عرفتها فى المجتمع حولى( .(من الصعب على أى امرأة أخرى أن تقول إنها قدمت للحركة النسائية ما قدمته نوال) .(نحن أسرة غريبة ومختلفة، أسرة بذلت جهودا مضنية فى شق طريقها ودفعت ثمن حريتها) .

بل إن الدكتورة نوال تؤكد أن تجربة سارتر وسيمون بالنسبة لتجربتهما تجربة تقليدية وزائفة وأعتقد أن حياتنا أشد تعقيدا وأوسع تنوعا، أن تكون تجربتهما هى المثل الوحيد.وإذا كانت تقول إنها لم تجد فى البيوت من حولها، ما يقترب من القمة التى وصلت إليها فإننى أرى من حولى حالات بنفس الدرجة والإيمان والاقتناع، ولا تدعى التفرد.والرائد لا يعين نفسه، وإنما تسعى إليه هالة الريادة وربما لا ينتبه إليها من فرط انشغاله باستكمال الطريق الصعب.إن جهاد البطلين موضع تقدير، ولكن تسبقهما وتشاركهما وتتخطاهما جهود كثيرين. قرأت أخيرا مقالا فى مجلة (المجلة) عدد يناير، التى تصدرها هيئة الكتاب للناقد الأردنى نزيه أبو نضال بعنوان (المبدعة العربية الجديدة.. الخروج من كهف الرجل) الأردن نموذجا.

تعجبت فيه من كم هؤلاء المناضلات الأردنيات اللاتى لا نعرفهن وجهودهن الباسلة طوال عشرات السنين، وفى بلد صغير. بقيت نقطة مؤرقة.وهى الأثر السلبى أحيانا لتأثير الغرب على جهود هؤلاء الأبرار النبيلة فى وطنهم، ولغيرهم .

فحامد عمار يقول إنه خلال السبعة عشر عاما التى قضاها فى الأمم المتحدة، توقف خلالها عن إبداء رأيه عما يجرى فى مصر والبلاد العربية، لأن عمله يمنعه من إبداء آراء خاصة تتعارض مع دبلوماسيتها.

ويمكن قول نفس الشىء على سنوات غياب شريف حتاتة فى نفس الموقع، إلا أنه قطع الطريق فى الوقت المناسب.

أما نوال السعداوى فلابد أن يعجب المرء من حجم تعلقها بالخارج وتركيز عيونها عليه، إلى حد اتهام نقاد ثقات لها أنها تكتب للغرب، وهى لا تنفى هذا (أنا مضطرة أعيش هنا علشان ابنى وبنتى وحياتى) .

وأخيرا، فإن واجب الأمانة يقتضينى أن أخبر القارئ- الذى لا يعلم - أن صاحبى تجربة الزواج غير التقليدى، التى عرضنا انفصلا مع نهاية الحوار بقليل، بالطلاق.وبعيدا عن مشاعر الشماتة أو الإدانة أو الدهشة التى قد تنتاب أى أحد، فإن هذا ليس هو الأهم. وإنى أعتقد أن الرجل كان صادقا فى سنوات زواجه الأربع والأربعين، وصادقا قبلها فى سنوات النضال السياسى، وصادقا بعدها بزواجه من أمل الجمل.

ولكن الحياة أكثر تعقيدا والإنسان أبعد أغوارا.

ما رأيك أنت؟!

عن مجلة صباح الخير المصرية