اليوتوبيات حقائق لم تنضج بعد

اليوتوبيات حقائق لم تنضج بعد

صاغ توماس مور (١٤٧٨–١٥٣٥) كلمة «يوتوبيا» لتكون اسم البلد الخيالي الذي وصفه في كتابه القصير الذي ظهر في عام ١٥١٦، والمنشور باللاتينية تحت اسم «كتاب مفيد وممتع حقًّا عن الحكومة المُثْلَى للجمهورية والجزيرة الجديدة المُسمَّاة يوتوبيا»، والمعروف الآن باسم «يوتوبيا».

والمقابل الإنجليزي لكلمة يوتوبيا utopia مأخوذ من الكلمة الإغريقية topos التي تعني مكانًا أو موقعًا، والحرف u مأخوذ من البادئة ou التي تعني لا أو بدون. وفي كتاب مور «ستة أسطر عن جزيرة يوتوبيا»، قدم للقارئ قصيدة تطلق على يوتوبيا كلمة Eutopia )أي الأرض السعيدة أو المكان الطيب). نتيجةً لذلك، أصبحت كلمة يوتوبيا، التي تعني لامَكان أو ليس في أي مكان، تشير إلى مكان طيب غير موجود.

مع أن أغلب المثقفين في القرن السادس عشر كانوا يقرأون باللغتين الإغريقية واللاتينية، فإنه سريعًا ما دخلت كلمة utopia اللغات الأوروبية الأخرى مع نشر كتاب مور بالألمانية في عام ١٥٢٤، والإيطالية في عام ١٥٤٨، والفرنسية في عام ١٥٥٠. ونظرًا لأن مور قد عارض ترجمة كتابه إلى الإنجليزية، فلم يُتح الكتاب بالإنجليزية حتى عام ١٥٥١ عندما ترجمه صهره.

وفي كتابه «يوتوبيا»، صوَّر مور سفينة تكتشف جزيرة غير معروفة تأسس عليها مجتمع قائم على مساواة واسعة النطاق، لكنه كان يُحكمه رجال حكماء كبار السن. إنه مجتمع هرمي أبوي، له قوانين صارمة جدًّا وعقوبات قاسية، لكنه كان يوفِّر حياة لمواطنيه أفضل كثيرًا من الحياة المتوفرة لمواطني إنجلترا حينها. تلك هي خصائص اليوتوبيا. إنها تتحدث عن أماكن طيبة (تصبح فيما بعدُ سيئة)، وتمثلها كما لو كانت حقيقية، فتستعرض أناسًا يعيشون حياتهم اليومية، وتصوِّر الزواج والأسرة والتربية والوجبات والعمل وما شابه ذلك، إضافة إلى النظم السياسية والاقتصادية. إن هذا التصوير للتحوُّل الحادث في الحياة اليومية هو ما يميز اليوتوبيا، وما اليوتوبية إلا هذا التحول في مجريات الحياة اليومية.

شكل ١: كان توماس مور (١٤٧٨–١٥٣٥) محاميًا وسياسيًّا وكاتبًا إنجليزيًّا معروفًا بأنه ذو توجُّه إنساني ينتمي لعصر النهضة، ومناهض لحركة الإصلاح البروتستانتي. أَنْعَمَ عليه هنري الثامن برتبة فارس نظير خدماته التي قدمها له، وأُعدم بسبب رفضه التوقيع على قسَم يعترف فيه بهنري الثامن رئيسًا للكنيسة في إنجلترا، وأعلنته الكنيسة الكاثوليكية الرومانية قديسًا في عام ١٩٣٥. وأشهر كتبه كان «يوتوبيا» (١٥١٦). وقد رسم هانز هولباين الصغير (١٤٩٨ تقريبًا–١٥٤٣) هذه اللوحة الشهيرة لمور في عام ١٥٢٧.

رغم أن توماس مور هو مَن صك كلمة «يوتوبيا»، فللفكرة نفسها فعليًّا تاريخ طويل ومعقد؛ فقد ظهرت الفكرة قبل ابتكار مور للكلمة بوقت طويل، وأُضيفت إلى اللغة كلمات أخرى لوصف أنواع مختلفة من اليوتوبيات، مثل «ديستوبيا» التي تعني المكان السيئ، والتي استخدمها لأول مرة، على قدر علمنا، هنري لويس يونج (المولود في عام ١٦٩٤) وذلك في عام ١٧٤٧ في عمله «يوتوبيا: أو أيام أبوللو الذهبية»، وأصبح استخدامها شائعًا الآن. وأمسى — منذ وقت مبكر جدًّا — وصْف شيءٍ ما بأنه «يوتوبي» طريقة لصرف النظر عنه؛ لكونه غير واقعي.

دائمًا ما يستاء الناس من ظروف معيشتهم، ويُكوِّنون رؤًى لحياة أفضل وأطول، ويتطلعون لحياة أحسن وأبدية تستمر بعد الموت. وفي بعض الأحيان، ساور البعضَ القلقُ من احتمال أن يعيشوا حياة أسوأ بعد الممات، واعتقدوا أنه مهما كان سوء هذه الحياة، فيمكن أن تصبح أسوأ؛ ومِن ثَمَّ ظَهَرَ أول انقسام كبير في اليوتوبية بين الأفضل والأسوأ في وقت مبكر جدًّا.

لا يمكننا معرفة متى حلم أحدهم لأول مرة بحياة أفضل، لكن يجب أن نعتمد على أولى الرؤى التي وصلت إلينا، أيًّا كان أصحابها وثقافاتهم، وهذه الرؤى موجودة في أقدم السجلات المكتوبة التي وصلت إلينا، مثل أحد الألواح السومرية الطينية الذي يعود تاريخه لعام ٢٠٠٠ قبل الميلاد. كانت الرؤى الأولى لليوتوبيا أشبه كثيرًا بالأحلام، التي لم يكن للبشر فيها دخلٌ نهائيًّا؛ أيْ شيئًا يحدث على نحو طبيعي أو بسبب مشيئة أحد الآلهة.

كل أشكال اليوتوبيا تطرح أسئلة؛ فهي تسأل إن كان يمكن تحسين الطريقة التي نحيا بها، وتجيب بأنه يمكن ذلك، ويقارن أغلبها بين الحياة الحالية والحياة في اليوتوبيا، وتوضِّح أوجه الخطأ في الطريقة التي نحيا بها الآن؛ وبذلك تقترح ما ينبغي القيام به لتحسين الأوضاع.

كما هو الحال مع أغلب الموضوعات، ثمة اختلافات على التعريف. إحدى المسائل التي تحير الناس دائمًا تنشأ من عدم التمييز بين اليوتوبية باعتبارها فكرة عامة، والأدب اليوتوبي باعتباره فرعًا من فروع الأدب؛ فاليوتوبية تشير إلى الأحلام والكوابيس المتعلقة بالسبل التي تنظم بها الجماعات البشرية حيواتها، التي عادةً ما تضع تصورًا لمجتمع مختلف كليًّا عن المجتمع الذي يعيش فيه الحالمون. واليوتوبية، على العكس من معظم النظريات الاجتماعية، تركِّز على الحياة اليومية، إضافة إلى المشكلات المتعلقة بالأمور الاقتصادية والسياسية والاجتماعية.

عن كتاب “ اليوتوبية: مقدمة قصيرة جدًّا “ تاليف “لايمان تاور سارجنت “