توماس مور: رجل السياسة الذي أصبح قديسًا

توماس مور: رجل السياسة الذي أصبح قديسًا

احمد الديب

يتقدم إلى المقصلة، بادي الوهن، نتيجة لتعذيبه الشديد في السجن، وفي هدوء يطلب من الضابط المرافق له معاونته على الصعود إلى المقصلة، مردفًا طلبه بعبارته الشهيرة:

هأنذا أموت في سبيل الكنيسة، خادم الملك الأمين، ولكن خادم الله أولاً.

هو السير «توماس مور» أحد أشهر سياسيي عصره، والمعروف عنه نزاهته، وبعده عن الفساد، في عصر كان الفساد فيه القاعدة وليس الاستثناء.

كان الملك «هنري الثامن» والذي لُقِّب بالسفاح، نظرًا لطغيانه الشديد، يطمع في الزواج من امرأة تدعى «آن بولين»، وذلك أثناء حياة زوجته الأولى. ولما كانت القوانين الكنسية تمنعه في ذلك الوقت، فأخذ يضغط ويلح على السير «توماس مور» الذي كان له نفوذ وعلاقات واسعة وقوية، كي يساعده في استخراج فتوى ببطلان زواجه من زوجته الأولى، وفي المقابل يقسم له مرو يمين الولاء باعتباره رئيس الكنيسة، في حين أن هذا اللقب كان من حق البابا وحده.

ولكن لم يضعف مور أو يلين، فألقاه الملك في معتقل برج لندن الرهيب، وتم تعذيبه عذابًا شديدًا، وعندما نجح الملك في إجبار رجال الدين فيما يريده، أصدر أمره بإعدام مور بعد محاكمة هزلية، ولقد أثار إعدام مور ضجة هائلة، واستنكارًا كبيرًا في أوروبا ضد الملك.

وجدير بالذكر أنه بعد ثلاث سنوات من زواج الملك بـ آن بولين، زهد فيها ولفّق لها تهمة الخيانة الزوجية، ومن ثَمَّ أعدمها ليتزوج من امرأة ثالثة.

نشأته

ولد توماس مور عام 1478 في لندن، لأب كان يعمل قاضيًا، وقد تميز مور منذ صغره برجاحة العقل، وحبه للتأمل وتذوق الموسيقى، وعشقه الكبير للرسم، وفي أثناء شبابه ذهب إلى أحد أديرة لندن لعدة سنوات، لكي يصبح رجل دين، إلا أنه لم يلبث أن خرج منه ليحترف مهنة القانون وليتزوج، ونظرًا لنبوغه الواضح، عمل بالسلك الدبلوماسي والبرلماني حتى أن الملك هنري الثامن رقّاه لمنصب السفير.

وقد قام الملك بإعدام مور، في نهاية المطاف، بوضع رأسه منصوبة في طرف إحدى الحراب على قنطرة لندن، لتكون عبرة لمن يتحدى إرادته، وعملت ابنة مور «مارجريت» على أن تستعيد رأس والدها بكافة الحيل حتى نجحت في النهاية في الحصول عليها وقد دُفنت معها.

وقد قام البابا «بيوس الثاني عشر» بإدراج اسم (توماس مور) في قائمة القديسين، رغم أنه لم يكن رجل دين، ويعد الإنجليز اليوم توماس مور واحدًا من أعظم الرجال في تاريخ الإنسانية.

"يوتوبيا" توماس مور

كتب توماس مور كتابه الشهير «يوتوبيا» الذي كان له أبلغ العمق والتأثير في الفكر السياسي للإنسانية بأسرها، كما أنه يُعد واحدًا من روائع الأدب العالمي وكتب فلسفة الحكم.

وقد استمد (مور) فكرة كتابه هذا من كتاب الجمهورية للفيلسوف اليوناني أفلاطون، ولقد أضاف مور أيضًا بكتابه كلمة يوتوبيا إلى القاموس، والتي لم تكن موجودة من قبل، ويُقصد بها جنة الله في الأرض.

وينقسم الكتاب إلى جزأين: أولهما ينقد فيه مور حياة الفساد والطغيان لدى الإنجليز في أوائل القرن السادس عشر، وثانيهما يُصوّر لنا مجتمع يوتوبيا الفاضل.

ويحكي لنا أنه أثناء إقامته في هولندا برفقة صديقه يقابل بحارًا، يُدعى «رافاييل هيثلوداى» ما شاهده في جزيرة يوتوبيا.

وصف الجزيرة وأهلها

يصفها بأنها على هيئة هلال، وعند طرفي هلالها يقبع الماء في سكون مثير، أما خارج مينائها، فالموج عظيم قلما تنجو سفينة من صخورها ودواماتها العنيفة، وأهلها قوم أصحاب بشرة بيضاء، ذوو عيون زرقاء، وشعور شقراء، لهم قوام طويل.

وعاصمة الجزيرة تسمى «عمورية»، بها نهر عذب رقراق، مياهه صافية. وتقسم مدن الجزيرة على نسق واحد، يفصل بين كل مدينة وأخرى عدة أميال، وتنتشر في أرجائها المراعي الخضراء والأشجار الوارفة، ويتقن أهل الجزيرة رجالاً ونساءً أعمال الزراعة وتربية الدواجن والماشية، ويسكنون في بيوت مفتوحة ليس لها قفل أو مفتاح، فهناك قرعة تتم كل عشر سنوات يتبادل فيها أهل الجزيرة بيوتهم، والمكونة من ثلاثة طوابق، تحدها حديقة واسعة فوّاحة بكل ما يسر النظر من الفاكهة والخضروات.

وتعد النظافة هي السمة السائدة في كل مكان على الجزيرة، ويرتدي أهل يوتوبيا زيًا موحدًا يتكون من الصوف ذي اللون الطبيعي شتاءً، والتيل ناصع البياض صيفًا، وان كانت هناك اختلافات طفيفة تميز الرجال عن النساء، والآنسات عن السيدات.

نظام الحكم والعمل في يوتوبيا

وكل مدينة في الجزيرة تنتخب ممثلين لها يُطلق عليهم (السيفوجرانت)، والذين يقومون بدورهم باختيار الأمير من بين أبرز أربعة من المرشحين الصالحين، ويتربى المواطن اليوتوبي على تقديم المصلحة العامة دومًا في كل الأمور.

وللمواطن بجانب إتقانه الزراعة، أن يختار حرفة أخرى كالحدادة أو النجارة أو غيرهما مما تحتمه ضرورات الحياة. ويعد العمل فرضًا واجبًا على كل رجل وامرأة في يوتوبيا وله ساعات ست، وثمان للنوم، وعشر ساعات من الفراغ، يُحتّم فيها على المواطن أن يملأها بما هو نافع لروحه وجسده، فدور اللهو والعبث غير موجودة، إنما هناك قاعات ومكتبات لتثقيف الناس، وألعاب تساعد على تنمية العقل والذكاء، وألعاب رياضية مثل الجري والسباحة وغيرها.

أما عن الاطفال والشيوخ والمرضى ومن يعجز عن العمل، فهؤلاء لهم وضع مميز، يقارب وضع أبناء الطبقة الثرية والنبلاء في الأمم خارج يوتوبيا.

نظام الأسرة والإنتاج

ونظام الأسرة في يوتوبيا هو نظام دقيق للغاية، فالأبناء المتزوجون والإخوة يقومون بالعيش مع الأب والأم، ولا يجب أن يقل عددهم عن عشرة أفراد، وفي نفس الوقت يجب ألا يتخطوا ستة عشر فردًا، فإن زادوا يُؤخذ الأطفال الزائدون لأسر لديهم نقص في العدد، وذلك للحفاظ على تناسب عدد السكان مع الموارد الطبيعية المتاحة لديهم.

وكذا يوجد العديد من المستشفيات بمدن الجزيرة، وهي غاية في النظام والنظافة، يُعالج فيها المواطن بالمجان.

ويجتمع أهل يوتوبيا لتناول الطعام في جماعات، ووفقًا لمواعيد منظمة، ولهم طقوسهم الخاصة عند تناول الطعام. وتجلس الأمهات المرضعات ومعهم الأطفال في سن الخامسة في قاعات بها الأراجيح والمهود، أما الرجال والنساء فيجلس كل منهم في جانب، وقبل تناول الطعام يقومون بقراءة أحد الكتب، يعقبها مناقشة حول ما جاء بالكتاب، ويتم إشراك الصغار فوق الخامسة في هذه المناقشة، ثم يتناولون العشاء على أنغام الموسيقى.

وفيما يخص اللحوم، فيوجد المجزر العام خارج المدينة، ويمارس مهنة الجزارة خدم أو أجراء من الأجانب يُعهد لهم بمثل هذه المهام الوضيعة، من وجهة نظر أهل الجزيرة. فهم يجدون أن مهنة مثل الجزارة تقضى على خصال الرحمة والعطف في نفس الإنسان، كما أنهم يُحرّمون الصيد لما فيه من قسوة في قتل حيوان بريء لا ذنب له.

ويوجد بكل مدينة على الجزيرة مخازن عامة، يستطيع رب الأسرة أن يأخذ منها ما يشاء وفقًا لاحتياجاته بدون ثمن، ومن ثَمَّ نجد أنه ليس هناك سرقة أو طمع على الجزيرة.

ويتميز نظام الإنتاج في يوتوبيا بالاكتفاء الذاتي، فما ينقص إقليم يُكمله إقليم آخر، وإذا حصل فائض كبير في الإنتاج زاد عن الحد، فيُوزع جزء منه على فقراء البلاد الخارجية، والباقي يُستبدل أولاً بمعدن الحديد ثم بالذهب والفضة.

والذهب والفضة لهم حكاية غريبة مع أهل الجزيرة، فهم يستأجرون به جنودًا مرتزقة على أعلى مستوى، وفي نفس الوقت ينظرون لهذه العملات نظرة احتقار، ويعدونها علامة على الفساد والشر.

نظام الدفاع والزواج

ويوجد لديهم أيضًا محاربون شجعان، وجهاز مخابرات ممتاز، يحاولون الحفاظ على ما منوا به من سعادة، وأن يكفّوا شر جيرانهم، ولا يعترف أهل يوتوبيا بالمعاهدات والاتفاقيات، فهي أشياء يسهل مخالفتها من وجهة نظرهم، لهذا فهم دومًا على أهبة الاستعداد، لأي محاولة من جانب أي بلد أو شخص يجرؤ على محاربتهم، ويُفضّلون دومًا حيل السياسة الماكرة على إراقة الدماء، وتقف الزوجات إلى جانب أزواجهن في الحرب شدًا لأزرهم.

ونظام الزواج لديهم له قواعد معينة، فالرجل لا يتزوج إلا امرأة واحدة، ولا طلاق لديهم إلا إذا وقعت جريمة الزنا، أو الشذوذ في المعاملة من قبل أحد الزوجين، وإذا تسبّب أحدهما في وقوع الطلاق فيُحرم من الزواج مرة أخرى، ومن يزني يُنقل الى مرتبة الخدم أو الأجراء، وقبل الزواج يُجرّد الرجل والمرأة من ثيابهما عاريين في حضور مندوبين من أسرتيهما، حتى يكون كل منهما على بينة من أي عيوب جسمانية موجودة في أحدهما.

تتميز يوتوبيا بحرية الاعتقاد، فكل إنسان حر فيما يعتقده، دونما إكراه أو إجبار، وتغلب على جميع المعاملات فيما بينهم التواد والتراحم.

نهاية الرحلة

وفي نهاية الكتاب، يشعر البحّار «رافاييل هيثلوداى» بالتعب من الحديث عن مدينة يوتوبيا، فيستأذن من مور وصديق، ثم يعود مور بعدها إلى إنجلترا، ويكتشف أنه نسي أن يسأل البحار عن موقع الجزيرة السعيدة، وعندما عاد إلى هولندا مرة أخرى ليسأله، وجد أنه أبحر من جديد إلى أراضٍ أخرى.

لقد ضمّن توماس مور في كتابه «يوتوبيا» الكثير من المفاهيم، مثل المساواة بين الرجل والمرأة، والدعوة إلى التسامح بين العقائد، وصور من الاشتراكية في توزيع الثروة بين الناس. لقد كانت يوتوبيا نقدًا مستنيرًا لمفاسد عصره، ودعوة حقيقية إلى عالم مثالي يسوده الحب والوئام، فهل يستطيع بنو البشر تحقيق اليوتوبيا في أي عصر من العصور؟

عن موقع ( اضاءات )