بهنام ميخائيل راهب المسرح وعاشقه

بهنام ميخائيل راهب المسرح وعاشقه

علي حسين

تقاطيع محببة الى النفس برغم صرامة صاحبها ، وابتسامة ممزوجة بحكمة مجربة، شخصية مزيج من سجايا وخصال الأستاذ الأكاديمي والاب ، هكذا كنت أرى بهنام ميخائيل وهي يقول لي بصوت حازم: عليك ان تغادر صالة المسرح ، وقبل ان اعرف نوع عن الجريمة التي ارتكبتها ودفعت الانسان الوديع ان يطردني من المسرح ، قال بحدة :

لا يجوز لا احد ان يحضر بروفات المسرحية ، كنت اجلس الى جانب الراحل الكبير قاسم محمد ، وكانت المسرحية بعنوان " رحلة الصغير وسفرة المصير " من اخراج الراحلة منتهى محمد رحيم واعداد قاسم محمد ، حاولت ان اخبره انني موجود بصفة صحفي اريد ان اجري حوارا مع المخرجة ومعد المسرحية .. فكان جوابه قاطعا لا يقبل النقاش : بعد البروفة تلتقي بهم في غرفة الادارة اذا احببت ..

كان بهنام ميخائيل آنذاك مديرا لمسرح الرشيد ، وهو المعروف بتقديسه لخشبة المسرح .. خرجت وانا انظر الى وجه قاسم محمد يبتسم دون ان ينطق بكلمة ، فمن يتجرأ ان يخالف قرارات "راهب المسرح" .. بعد ساعة سيخبرني موظف الاستعلامات ان الاستاذ بهنام يريد ان يراني ، وما ان دخلت غرفته في مسرح الرشيد حتى نهض من مكانه وهو يعتذر بكلمات تفوح منها الطيبة قال لي : تعلمت ان لا اتسامح حتى مع الخطأ البسيط في المسرح ، مثلما علمني والدي ان اكون صارما مع الاخطاء في الحياة .. اثناء الحديث وجدت نفسي مع شخص آخر يختلف عن بهنام ميخائيل الذي التقيته اثناء البروفة في مسرح الرشيد ، فنان ، يغلف الكلمات بروح المودة والتواضع ، وأيضا بجمل لن تغادر ذاكرتي، فلم يكن الحديث عن احترام المسرح ، وإنما عن دور المسرح في حياة الناس، فالمسرح بالنسبة إليه هو فن إشاعة الخير والصدق قال لي : أؤمن أن المسرح لا تقوم له قائمة وسط الفوضى والعبث فالمسرح هو نظام وجمال قائم على الدقة ، ثم أضاف : المسرح هو أصعب الفنون على الإطلاق.

المخرج هو مترجم أفكار الدراما كانت هذه طريقة بهنام ميخائيل المسرحية وهي الطريقة التي استمدها من افكار المخرج الروسي الشهير ستانسلافسكي الذي كتب في كتابه حياتي في الفن : (إن فن الإخراج يبدأ عندما يعبر المخرج عن مضمون المسرحية ويكون مترجما أمينا لأفكارها فالمسرح سيظل دائما حيث ترتبط أفكار المؤلف ومواهبه مع أفكار الممثل ومواهبه لذلك وجب على المخرج أن يكون دائم اليقظة عند فحصه الشخصيات التي أوردها المؤلف ومطابقتها للمواقع) ، وقد شغفت هذه التعاليم لجدتها وحيويتها عددا من مخرجينا الرواد اللذين درسوا فن الإخراج المسرحي خارج القطر ، وكان الفنان الراحل بهنام ميخائيل احد الذين تأثروا بهذه التعاليم وحاولوا تطبيقها على واقع الفن المسرحي في العراق.

ويضع بهنام ميخائيل تعريفا للمسرح بكونه محاكاة للواقع ولكن ليس بمعناها الفوتوغرافي، والدراما ما هي إلا تعبير عن الأفكار الإنسانية وهي بدورها نتاج ما يسترجع من صور. هذه الصور تسترجع لأن الفنان الخلاق يستعمل صور الخبرة السابقة، صور الحياة التي أعاد تجميعها ومن خلالها يبدع شيئا وهو نتيجة تصوره الخاص ولكنه أساس لا يعدو أن يكون الحياة ذاتها فالغرض من الفن والمسرح كشكل هو إثارة الأحاسيس، والأعمال المسرحية يجب ان تثير شعورا حادا لدى المتفرج هذه الإثارة العاطفية يجب ألا تكون مجرد تأثير عابر بل يجب أن تكون قوة العاطفة على الفرد بالغة العمق ، ويرى بهنام ميخائيل أن المخرج هو سيد المسرح الذي تخضع لديه العملية الخارجية إلى ثلاث مراحل الأولى تبدأ بالمخرج المترجم وهو الذي يوضح كيف يكون التمثيل ويمكن أن نسميه بالمخرج الممثل وهو الذي يسهل المشاكل المتعلقة بالتكوينات الفنية عن الممثل وثانية المخرج العاكس وهو الذي يعكس للممثل الإحساسات والانفعالات ويعيدها إليه ليقوم الممثل بتمثيلها ، وعلى المخرج أن يتعرف بدقة على إمكانية الممثل، وان يعطيه من نفسه في أثناء العمل ما يعينه على التعمق في دوره والأخذ بناصيته ثم المخرج منظم العرض المسرحي وهو الذي يتحمل كل أعباء المسرحية وينظر إلى كل مرحلة فيها نظرة تمعن ويبذل كل جهوده لربط شخصيات المسرحية في وحدة فنية متكاملة .

لقد كان بهنام ميخائيل يرى أن قيمة المخرج الواقعي الحديث تكمن في قدرته على عكس المظهر في استمرار الحياة الواقعية بشكل فني جميل ومؤثر، وهو يرى... ان احترام النص المسرحي واجب عندما يكون هذا النص متكاملا قبل ان يفكر باخراجه ، اما بالنسبة للممثل فان بهنام ميخائيل كان يرى ان الممثل هو الاساس بعد النص المسرحي ، وهو الذي تقوم عليه مهمة ايصال الكلمة الى المتفرج ، اما المخرج فهو في نظر بهنام ميخائيل العقل المفكر الذي يحسن اختيار النص ، وهو الذي يحول هذا النص الى متعة حياتية .. إلا ان بهنام ميخائيل كان يرى بكل تواضع انه لم يصل الى هذا المخرج ، لان هذا شيء صعب التحقيق .. قال لي وهو يبتسم " صعب جدا " .

في صفحة حياته التي تنوعت بين دراسة الطب ، والبحث عن اسرار اللاهوت طالبا كما تمنى والده، ثم القفز على كل هذا والمجازفة بدراسة المسرح ، نجده لا يميل الى الفصل بين حياته الجادة الباحثة عن العلم وبين شخصيتة كاستاذ مسرح ومخرج مسرحي ، قال لي ذات يوم ان تكوين الانسان الثقافي والاجتماعي هو الذي تبثق منه شخصيته ، مثلما تنبثق الشخصيات من بين دفتي الكتاب لتتحول الى شخصيات من لحم ودم على خشبة المسرح .

يعترف ان رحلته ابتدأت في عائلة طبق عليها الوالد الحياة العسكرية ، في اسرة من الطبقة المتوسطة تنقلت بين بغداد وكركوك .. هذه الحياة التي كونت شخصية المعلم والفنان صاحب الروح النقية، والصارم في اوقات الجد ، والمرح في أوقات الصفاء، الراصد لتفاصيل الحياة لتكون موضوعا لمسرح يدافع عن قيم الانسان .