مُحاضَرَة بَهْنامْ ميخائيلْ…

مُحاضَرَة بَهْنامْ ميخائيلْ…

عبد الحميد الصائح

لقد غيرت عنوان مقال اليوم من “العلاقة مع الأشياء” إلى “محاضرة بهنام ميخائيل” والسبب إنّي جئت بالرجل مثالاً ونموذجاً في سياق موضوع المقال فاقتحم الموضوع من أوله إلى آخره، كان أستاذنا في قسم المسرح بكلية الفنون بداية الثمانينيّات بهنام ميخائيل كائناً عجيباً،

لا أشكّ أن أي طالب جاد في معهد الفنون أو الأكاديمية حضر درس بهنام أو عمل معه لم يظل لصيقا بعقله وروحه حتّى الآن،رجل لا تستطيع أنْ تمسّك له خيطاً أو تفهمه أو تتعود على طباعه. لا نعرف بالضبط ما هي المحاضرة التي سيعطينا إياها، وحين نخرج من القاعة ترانا كالهابطين بمركبة فضائية أو الصاحين من أحلام الحمى.

إذا تحدث في الأديان وجدته راهباً ذائباً في الخالق محترفاً يستعرض القيم والتعاليم والضوابط والمواقف من الحكايات الشعبية إلى اللاهوت، وإذا تحدث في الإلحاد تجده يقظاً محاججاً لا يترك حلقة مغلقة لا تفسير لها إلا وتوقف عندها. مشيراً إلى نماذج تدعم رؤاه وهواه من حياة الفلاسفة وعيون المسرح العالمي والقصص الواقعية، يقول: الفنّ في جوهره لحلّ اللغز بين الله ومخلوقاته،

إذا تحدث عن شرطي المرور يجعلك تنسى صورته وحزامُه تحت كرشه يتلصص ليغادر موقع عمله، يدخن بيد وباليد الأخرى سندوتشه، لتتخيله ملاكاً يحرس الناس وينظم الطرق والحياة،إذا تحدث عن الجيش تراه رماحاً ضوئية في الليل،

منشغل بالجميع كأنّهم عائلته، على الفقراء أنْ يفكروا كثيراً، وعلى القساة أنْ يحلموا قليلاً،يمثل ويتلون ويصفن ويغضب ويتأمل، يتركنا ويفرحنا ويزعجنا ويستفزنا،سألنا مرة: ماذا تفعل أو تفعلين إذا مرض حبيب لك،كلّ إجاباتنا كانت خاطئة، أجابته هو،أمرض معه لتشفيا معاً. عش مع الكتّاب والفلاسفة والمصلحين، اجعلهم أصدقاءك اليوميين، استضفهم، استشرهم،لا ترم كتبهم بعد قراءتها، الله يرفض ذلك، الله يحبّ عباده جميعاً حتّى اللذين يشاكسونه، الله الوحيد الذي يعرف جدوى الوجود، علينا أنْ نساعده بتنشيط العقل والفنّ،

تأمل خلقتك دائماً، راقب أعضاء جسدك جميعها، احترمها اجعلها كلها عيون وكلها آذان وكلها رئات وكلها أكباد، تحدث معها، الممثل قريب في روحه إلى الله، امش برفق على الأرض وقبّل خشبة المسرح قبل أنْ تعتليها وأدعو البشر جميعهم لأن يقرؤوا (حياتي في الفنّ) و (فن الممثل) لستانسلافسكي كي يضع الناس أنفسهم محل بعضهم في عوالم افتراضية من تعقّب الفعل إلى تبني الشخصية إلى الذاكرة الانفعالية ليكونوا أمة واحدة على هذا الكوكب.

قلت له أستاذي لماذا لا تكتب انطباعاتك كي يستفيد منها الآخرون، قال: الناس لديها أكثر مني بكثير، كلّ الناس تفكّر، لا يوجد أحد غني عن التفكير، فقط بحاجة إلى الحب، الحب هو الوحيد الذي يجعلك فيلسوفاً وفناناً وفارساً ومفيداً، كم ما فيك من حبّ للأشياء مقياس إيمانك بالله،

خلاصة الأمر لا يمكنني لوحدي وصف بهنام ميخائيل الخالد الرائد المعلم المتواضع الذي أرهقتني وترهقني محبته وذكراه،ما يهمنا في هذا الحقل اليوم هو العلاقة مع الأشياء التي كان ميخائيل يلح عليها. يقول : الشارع يراقبك وأنت تسير فيه، والباب يستقبلك ويعرف اسمك، والكرسي الذي تحرّكه بخشونة عليك أنْ تعتذر منه،ملابسك تعرفك جيداً، وهي تعرف ماذا يناسبك اليوم فاستشرها، الآخرون ميدان خلودك وهم معركتك وهم رفاقك في الوقت نفسه،لا تنظر إلى ما يعتقدون وبماذا يدينون وماذا يلبسون أنّهم أنت بطباعة مختلفة،كلنا في مدار هذا اللغز شركاء في القلق والخوف من النهايات وكلنا مكلفون بأنَّ نجعل هذه الحياة أجمل وأن نعيد أنفسنا إلى الحياة على شكل أطفال، احرص على أنْ تكون شريفاً أميناً منضبطاً في الحياة شجاعاً ومسالماً، فارساً وطبيباً. الله سيحاسبنا على رمي النفايات في الشارع وعدم تشجير المدن،الله سيحاسبنا على كلّ إنسان أمي وكل حيوان مشرد وكل طفل يعمل، وكل مهندس لا يعمل.

لا تكن كسول اليد والقلب والعقل،البشرية كلها تتنافس على روح واحدة فكن سباقاً في الخير ولا تتردد في مدح الجمال،لا تكن شرهاً ولا تنس أنَّ العملة هي تطور للمقايضة.

لا يعرف طلاب بهنام ميخائيل بالضبط ، هل أنَّ الرجل طبيعي؟ هل كان مثالياً أم كان واقعياً؟. حين وصلني نبأ وفاته، دخت وبدأت أتخيله في الآخرة كيف سيتصرف؟ أصبح بهنام هاجساً وأنا أشعر بحاجته وافترض مع نفسي لو إنّه عاش أيامنا هذه كيف ستكون محاضرته عن علاقة الإنسان مع الأشياء وعَقْدِ الإنسان مع الإنسان والدولة والشارع والبيت والوظيفة والفنّ والمسرح والغناء والسياسة والإيمان والإلحاد والأطفال والمال والأسرة والحرب والمستقبل؟.