جوزيف الفارس
انا سمعت عنه في باحة معهد الفنون الجميلة في الكسرة , الصغير والكبير كان يتكلم عنه وعن خوفهم منه وعن جدية العلاقة مابينه ومابين الطلبه , ودقة تعامله معهم , وهذا لم يعجب البعض من الطلبة الذين اخذوا يصبون له العداء , ويخططون للاعتداء عليه , وهذا ماحصل , بعد ان اتفق اثنين او ثلاثة من الطلبة المشاكسين ,
حينما حاولوا الاعتداء عليه وضربه على راسه مما ادى هذا الاعتداء بنزيف دماء في راسه , الا ان هذا الاعتداء لم يثنيه عن تغيير مبادئه التربوية والاخلاقية , بقدر ماحاول مجابهتهم بالابتسامة اللطيفة والمسامحة الكريمة , كان نتيجة ذالك ندمهم واعتذارهم منه عما بدر منهم بحقه في الوقت الذي لم يكن في علمهم ان تشدده ماكان يصبو الا من اجل فائدتهم وتثقيفهم على المفاهيم والاخلاق الفنية المسرحية الصحيحة, والتي اعترفوا بها فيما بعد تخرجهم واستذكارهم لهذا الاعتداء ومسحة الندم والالم ظاهرة على حال لسانهم , وهم يتكلمون عن سوء معاملتهم ومشاكستهم لهذا المربي الجليل , حينما اتفقوا ثلاثتهم على الاعتداء عليه .
المربي الفاضل وراعي المواهب الفطرية وصقلها بعد قبولهم طلبة في الصفوف الاولى في معهد الفنون الجميلة , لم يكن يبخل مما عنده من ثقافة وخبرة وتجربة , كان يمنحهم معظم اوقاته, ولا سيما بعد انصرافهم الى بيوتهم او الى اقسامهم الداخلية , ومن ثم عودتهم الى المعهد لتكملة التمارين على المشاهد الصفية , يفاجئهم بوجوده منتظرا اياهم , بعد ان استغنى عن وجبة الغداء حرصا منه على ان لا يتاخر عليهم , وكان من طبيعته ان يبحث في حدائق المعهد عما يثير فضوله وهو يراقب من زاوية عينيه تحركات الطلبة , لياخذ عنهم صورة عن حقيقة مصداقيتهم في التمارين العملية على المشاهد الصفية , او بالاحرى كان يعمل كالبوليس السري في تسجيل ملاحظاته عن كل طالب , ليجابههم بحقيقة واقع حالهم , مطبقا المثل والذي كان دائما يردده ( من لسانكم ادينكم) .
واتذكر في اليوم الاول للمقابلة , ولشدة مادفعني الفضول للتعرف عليه , و خوفي مما سمعت عنه زاد هلعي وقلقي على اني ساواجه عقبة صعبة في طريق تحقيق احلامي وقبولي في المعهد , واكاد لم اصدق حينما اشاروا عليه وقالوا لي : هو ذا بهنام ميخائيل , فهرعت اليه واقدامي تتسابق الواحدة بعد الاخرى بغية الوصول اليه , عندها احسست انني امام عملاق ينظر اليا من زاوية عينيه, وبالحقيقة انه كان يرغب ان يتجاهلني , الا انني جعلته امام الامرالواقع بوقوفي امامه , ونظر اليا وقال لي , ( ها جوزيف شلونك ؟ ) ولاشد ما اثار استغرابي هو معرفته باسمي , في الوقت الذي لم اذكر انني التقيته او عرفته باسمي !!!!!! الا انني علمت بعد ذالك بانه كان قد اطلع على اضابير الطلبة الجدد , ومنها حفظ اسمي ,فاذهلني بهذه المفاجئة , وتلعثمت قليلا , , وطارت الافكار من راسي , وجميع الجمل والكلام اللبق والذي كنت قد هيئته له من اجل ان ابرهن عن ثقافة اسلوبي في الحديث , وعن خلفيتي الثقافية , الا انني انشغلت بالبحث عن الجملة التي تليق بي وانا امام هذا العملاق وبالرغم من انه قصير القامه , الا انه بادرني بقوله وهو لا ينظر الى عينايا وهذه عادته وقال لي : كيف حالك واستعدادك للمقابله ؟ فاجبته بثقة عالية , نحن لها يااستاذ , وانا من خلال المجاملة الفارغة سالته وقلت له : استاذ العفو , ماهي اسئلتك التي ستواجهنا بها عند المقابله ؟ فابتسم بلطف وقال : اسئلة عادية , مثلا عن ثقافتك وتجربتك وخبرتك , فقاطعته بسؤال اخر , الا انه انزعج مني وقال : تعلموا فنون الكلام والحديث , ان تبقى منصتا لي ومن دون مقاطعتي الا بعد الانتهاء من الحديث , عندها ساسمح لك بالسؤال , وعندها لم اكن اعلم ماافعل من شدة اسفي وندمي على مقاطعته وعلى هذا الموقف والذي لا احسد عليه , انما تعلمت من بهنام ميخائيل في هذه الحظة الحرجة الدرس الاول .
ان لكل انسان تجاربه الحياتية , والصدمات غير المتوقعة لحياته من ابناء جلدته , اضافة الى هذا الاكتساب الثقافي نتيجة البحوث والدراسات المطلع عليها , تضيف له اكتمال ماكان ينقصه ضمن مرحلة يعبر فيها عن نضوج رشده ولا سيما التجارب الحياتية والخاصة به , والمستمد احداثها من واقع مجتمعه ,مما تدفعه على التغيير لهذا الواقع , وتقديم الافضل مما عنده من الاراء والتجارب والتي هي السبب في تالقه في الحياة , ونجاح مسيرته وفق مااملته عليه هذه التجارب , صحيح انه تاثر في سلوكيته ونظام حياته بوالده السيد ميخائيل , والذي كان عسكريا متشددا بنظام حياته , وهذا ماكان يسري على افراد عائلته ومنهم ولده بهنام , والذي ترعرع على هذه الاجواء واثرت في نظامه الحياتي , وحتى على حياته الزوجية , والتي كان مثار خلاف لهذا , كان بهنام ميخائيل انسانا صارما ومتشددا وغير مساوما على مبادئه والتي يؤمن بها اشد الايمان , ليطبقها على ابنائه الطلبة في حياتهم الدراسية في المسرح , بكل حرص وبادق الملاحظات , مما ساعد من خلالها ومنهجيته المؤمن بها على تنمية وصقل مواهبهم , ولهذا كان مهتما في تعويد طلبته على تقوية حالة الاسترخاء والتركيز , لانه مؤمن اشد الايمان بان الاسترخاء يجب على الممثل ان يكون في حالة الاسترخاء وهو في الحلقة الوسطى ماخلف الكواليس , وفي الحلقة الصغرى امام الجمهور, ليتسنى له تادية الحركة بانسيابية وفيها شيئا من الجمال , وبعيدة عن التشنج والذي كنا نسميه ( متخشب ) اما قوة التركيز عند الطالب ستساعده على التركيزوالتوقيت على الاضاءة والموسيقى وعلى الحركة في ان واحد , وعلى خلق العلاقة مابينه ومابين الممثل الاخر , اضافة الى ان قوة التركيز ستساعده على الحفاظ على علاقة الممثل بالسينوغرافيه المسرحية وهو على المسرح اثناء العرض المسرحي , وعلى ذكر التركيز , اذكر ان الاستاذ بهنام ميخائيل كان يدربنا على بعض التمارين والتي تنمي وتقوي التركيز عند الطالب , كأن يضع اقلاما ومساحات واشياء مختلفة اخرى وعديدة ومختلفة الاشكال , ومن ثم يطلب منا بعد ان يحجبها عن اعيننا ذكرها وبالتفصيل , او يفاجئك بالسؤال عن عدد الاقلام المرسومة على قميصك ومن دون الالتفات اليها فان كانت اجابة الطالب فيها شيئا من الصحة فيعني هذا ان قوة تركيزه جيد جدا وهذه اشارة حسنة عند الاستاذ بهنام ميخائيل , ونحن الطلبة قد تعودنا على مثل هذه الاستفزازات والاسئلة الغريبة , والتي كان يتعامل بها مع الطلبة الجدد في المقابلة الاولى , انه الاستاذ الوحيد الذي كان بنفرد بمثل هذا الاسلوب الاختباري , ولربما قد يعود هذا الى تجاربه الخاصة او الى ثقافته الاستانسلافسكية , او الى تربيته الفنية والطرق التربوية التعليمية والتي استفاد منها من دراسته الجامعية في معهد كودفان ذيتر في شيكاغو , والمتخصص في الفنون المسرحية ( الاخراج والتمثيل والدراسات النظرية والعملية ) والتي انفرد بها عن بقية زملائه من الاساتذة , ولشدة ماكان تاثير تربيته الفنية والدراسية في المسرح على طلبة الصفوف المبتدئة في المعهد , وتهيئتهم كادرا فنيا ذوي مهارة وحرفية في التمثيل استفاد منهم كبار الاساتذة من المخرجين في اعمالهم وعروضهم المسرحية جعلتهم يتذمرون اشد التذمر حينما علموا بنقل الاستاذ بهنام ميخائيل من التدريس في المعهد الى التدريس في الاكاديمية , وقد صرح بذالك وعلى مسامعنا الاستاذ ابراهيم جلال رحمه الله حينما قال :لقد خسرنا الكونترول وصانع النجوم بهنام ميخائيل , لانني اشبهه بذالك الفلاح الذي يزرع بذرة ويراعي شتلاتها ويعتني بها ويصقلها , الى ان تاخذ مجالها في العطاء , لاننا كنا نستلم من بهنام ميخائيل ممثلين متكاملين الحرفية ونجوما في التمثيل متكاملين المواصفات والمواهب المصقولة والمثقفة , انما الان خسرنا بهنام ميخائيل وخسرنا ترفيد نجوم جدد .
ويكفينا ان نعلم بان العديد من المواهب الاكاديمية من الاساتذة الكبار من حملة الشهادات للدراسات العليا قد تخرجوا على يديه , ومازالوا يذكرونه ويذكرون جهوده المخلصة ويصرحون بهذا في محافل اجتماعية ومؤتمرات فنية بان للاستاذ بهنام ميخائيل له الفضل في وصولهم الى هذا المستوى الاكاديمي والمركز المرموق .
كان بهنام ميخائيل يصب جهده من اجل صقل المواهب ويعطيها من تجربته وثقافته , ويتابع الصغير والكبير ويخلص في ارشادهم وتوجيههم , وبالرغم من مكافئتهم له بشتى وسائل النقد والعداء , الا انهم بعد حصولهم على الشهادات العليا , يستذكرونه بالحسافة والندم على مابدر منهم بحقه , ويترحمون عليه , معترفين بانه كان المربي الفاضل والاب الروحي , ولولاه لما وصلوا الى هذا الحال من الرقي والثقافة التي كان اساسها المنهاج التربوي والاخلاقي في مسيرة الفن والفنانين التي ارساها الاستاذ المرحوم واصبحت تذكر على السنة المثقفين من الاكاديميين المسرحيين , وهم يؤكدون وفي عدة محافل فنية او لقاءات اذاعية او تلفزيونية او ريبورتاجات صحفية , بان التاريخ الفني والمسرحي بالذات , سوف لن ينجب استاذا مثل بهنام ميخائيل , ولا مثل نجوميته في تدريس الطلبة وتربيتهم التربية الاخلاقية الفنية في عالم المسرح العراقي , وان كان صارما بعض الشيىء في اسلوبه وعلاقته مع الطلبة , انما كان هذا يصب في صقل المواهب وتعويدهم على الاسلوب الصحيح والقاعدة الاساسية لاعدادهم اعدادا حرفيا في الاعتماد على انفسهم في تحليل الشخصيات وايجاد ابعادها وتسخيرها على خشبة المسرح المقدسه , وهذه هي ايقونة بهنام ميخائيل والتي كان يرسمها باسلوب تعليمي وعلمي من اجل تطوير وصقل المواهب الفطرية , وتعويدهم على ظرورة احترام العلاقات مابين الفنانين ومابين ما يحيطهم من الانسان والحيوان والجماد , لا تستغربوا من هذا انها الحقيقة التي كان يؤمن بها بهنام ميخائيل من خلال تقديس واحترام كل الكائنات الحية , ان كان حيوان او انسان او نبات اضافة الى جميع مكونات الحياة والتي لها علاقة مع حياة الانسان .
لا تستغربوا من ظاهرة بهنام ميخائيل , وسلوكيته في الحياة اليومية , وايمانه المطلق بمبادئه التي يؤمن بها , ففي احدى المحاضرات وهو يوصي بنقاوة الفنان وسلوكيته الايمانية باتجاه علاقاته الانسانية , وبافكاره التي يطرحها من على خشبة المسرح , حينما كان يؤكد على مسامعنا واكثر من مرة ,( بانه يجب على الممثل ان ينظف اذانه , ولسانه , وقلبه , واقدامه , ونواياه , قبل صعوده على خشبة المسرح , وان يؤمن كل الايمان بما يطرحه على مسامع الجمهور في العرض المسرحي , فلو انه كان لا يؤمن يما يطرحه على مسامع المتلقين , فكيف يطلب من جمهوره الايمان بما يطرحه هو؟) , ومرة طلب منا الاعتذار من الحمار لكوننا نقسوا عليه بتعاملنا معه , ونطلب منه الاعتذار بقولنا ( اخي سامحنا ) لا تتعجبوا من هذا , لانه بعد ذالك شرح لنا اسباب هذه العلاقة التي يتعامل بها الممثل مع الحيوانات , لانه يجب على الممثل التاقلم مع الحيوانات والتعرف على غرائزها وتقريبها الى الشخصيات والمراد منها تجسيدها , مثال على ذالك , شخصية شايلوك في مسرحية تاجر البندقية , فان غريزته الحيوانية هي الثعلبية التي يجب ان يجسدها الممثل في تمثيل هذه الشخصية , وفي مسرحية عطيل , يجب على الممثل الذي يجسد شخصية عطيل ان تتجسد فيه معالم غريزة الثور الاحمق , وغريزة الثعلبية الماكره عند ياكو , هذا هو الغرض من هدف بهنام ميخائيل .
ومرة طلب من احد زملائنا الطلبة حينما جاء لياخذ محله على احدى الكراسي , سحبها بقوة بحيث سمعنا صوت سحبها من خلال احتكاك ارجلها بالارض فالتفت الاستاذ بهنام ميخائيل الى مصدر الصوت والقى نظرة اشمئزاز وعتاب على الطالب , وبعدها بادره بالقول :لماذا اعتديت على هذا الكرسي ياولدي الحبيب ؟ , لماذا لم تعامل هذا الكرسي بلطف واحسان وسحبه باعتناء وتاني وبرفق ؟ الم تسمع استغاثة هذا الكرسي ؟ , لانه تالم , فارجوك ان تطلب الاستئذان في بادىء الامر, و من ثم اطلب منه السماح بالجلوس عليه , طبعا وبعد موافقته , عندذاك يمكنك ان تجلس عليه , اثار ت هذه الملاحظات استغرابنا وتساؤلاتنا , وبالفعل اتم ماراد للاستاذ بهنام ميخائيل , ومن ثم اعقبها بتعليق عما حدث موضحا الاسباب التي تستوجب على الممثل الاعتذار من الكرسي , لانه يعتقد بان الفنان الحقيقي يجب ان يملك رقة الاحساس بتعامله مع من حوله , وحتى ان كان ذالك جمادا او حيوانا , ليستطيع اختزان هذا التعامل في ذاته , وان يسترجعه كاحساس ورد فعل , من خلال هذا الاختزان مستقبلا لشخصياته المستقبلية على المسرح .
ان بهنام ميخائيل بالرغم من تاثره بوالده العسكري , والتي اثرت على نمط حياته وسلوكيته الخاصة وعلاقاته بالمحيطين به الا انه يحمل في طيات ذاته , التواضع , والطيبة , وعفة النفس , هذه الصفات الانسانية القيمة اهلته للدخول الى كلية اللاهوت في اميركا , وحسب رغبة والده , انما عدل عن هذا الراي , وانخرط مع طلاب الدراما في شيكاغو , وعاد الى بغداد , وهو يحمل شهادة عليا في دراسة المسرح في سنة 1959 ليتعين استاذا في مادة التمثيل والاخراج المسرحي في معهد الفنون الجميلة , حيث كان علامة متميزة بين اقرانه من الاساتذة الاجلاء في التدريس , في ترسيخ مبادىء احترام المسرح وتقديس خشبته , ورسم مفاهيم جديدة للمسرح العراقي , وهو ان المسرح , ليس غايته عرض الواقع وكشفه , وانما التحريض على تغييره , وتعرية السلبيات , وكشفها , وترسيخ مفاهيم القيم الانسانية والفكرية والعقائدية التي تحترم حرية الانسان , وتهدف ايضا الى تطوير حياته الاجتماعية والثقافية والفكرية الى الافضل ,وقد يعود هذا الى ماكان يحمله من العقائد الايمانية , والتي اهلته لدراسة اللاهوت ليصبح رجل دين كنائسي , انما كانت الاقدار قد رسمت له غير ماكان مخططا لها .
انتقل من معهد الفنون الجميلة الى الاكاديمية مدرسا فيها , اضافة الى كونه كان فاحصا للنصوص التمثيلية في الاذاعة والتلفزيون , ولكن مما يؤسف له تثمينا لجهوده ولمثابرته واخلاصه لمهنته التدريسية , فصل من معهد الفنون الجميلة , لتلفيق تهم باطلة بحقه , مما اظطرته الظروف الاقتصادية القاسية ان يشتغل في احد المطاعم السياحية في متنزه الزوراء , الا ان العناية الالهية راعته واعادته الى وظيفة مدير المسرح القومي , ولحاجة معهد الفنون الجميلة لثقافته وخبرته , اعيد مرة ثانية استاذا فيه , اضافة الى التدريس في اكاديمية الفنون الجميلة.
لقد غير الاستاذ بهنام ميخائيل الكثيرمن المفاهيم البالية ومن نظرة المجتمع العراقي السيىء الصيت للمسرح , بعد ان كان يعتبره ملهى ليليا لقضاء متعة رخيصة وسويعات مزاجية ومليئة بالنزوات والشهوات الجسدية التي كان يقدمها ويعرضها بعض اصحابي النفوس الرخيصة والوضيعة من على المسارح الليلية , جاء ليساهم في تطهير المسرح من هذه النفوس الضعيفة والوضيعة ويغير نظرة المجتمع المتدنية الى واقع نظرة تقديس واعجاب , واحترام الخشبة المسرحية , مبتدئا من طلبته قبل جمهوره , وارسائنا على بعض الاخلاق التربوية والاعراف المقدسة لاحترام الخشبة , وسماها الخشبة المقدسة , مما حدا به الى فرض تقبيلها قبل الصعود عليها , وهكذا بدات عملية التغيير لنظرة واقع المسرح مبتدئا من طلبة الصفوف الاولى ,من الطالبات والطلاب , وتوصيل نظرتهم المقدسة وواقع ايمانهم واحترامهم لهذه الخشبة وما يعرض عليها , الى ذويهم وعوائلهم من خلال دعوتهم لحضور عروض المسرح التجريبية في معهد الفنون الجميلة وتطهير افكاهم وغربلة نظرتهم المتدنية الى المسرح , مما خلقت جمهورا واعيا ومثقفا ومثمنا دور المسرح , كونه فعلا محركا للتغيير والتجديد نحوى الافضل , وتوطدت علاقة المجتمع بالعروض المسرحية , ومتابعاته المستمرة لهذه العروض ,وذالك يعود الى بناء القاعدة الاساسية في محاضرات الاستاذ بهنام ميخائيل في حث الطلبة على التعرف باخلاقية المسرح المقدسة , والعمل على صقل مواهب المتقدمين من هؤلاء الطلبة والراغبين في دراسة فنون المسرح , وباشرافه المباشر مما سهل الكثير على انتاج العروض المسرحية لاساتذتنا الكبار , من امثاال ابراهيم جلال , و جعفر السعدي , وجاسم العبودي , وجعفر علي , وبدري حسون فريد واخرين من اساتذتنا الكرام , في الاستعانة بطلبة بهنام ميخائيل في عروضهم المسرحية الناجحة والمتخرجين من مدرسة هذا الاستاذ المربي , راهب المسرح , بهنام ميخائيل .
هذه المقولة لاستاذنا الكبير ( ستانسلافسكي ) ترجمها الاستاذ بهنام ميخائيل في احد مقالات الاستاذ يوسف العاني في الحوار المتمدن قائلا :( كان عبد الواحد طه يراس مجموعة من الممثلين وهم : يوسف العاني , وهو يذكر سامي الواحد , وانا اعتقد انه كان خطأ مطبعيا , لكونه كان يقصد الاستاذ سامي عبد الحميد , مجيد العزاوي و راسم القيسي , ناهدة الرماح , ازادوهي صاموئيل ) مع عدد كبيرا من الكومبارس يتقدمهم المخرج الراحل بهنام ميخائيل , والذي وافق على العمل في المسرحية بدور لا حوار فيه , وانما كانت شخصية لها حضورا مسرحيا .
ان الذي يسوقه الفضول للتعرف على بهنام ميخائيل , من الضروري جدا ان يتعايش معه , وعلى الرغم من انها تحمل الكثير من المعوقات وتوتر الاعصاب , الا ان المرء يستفيد منها , لانها تجارب يختزنها لحياته , ويستفيد منها في المستقبل بعد التخرج , لان بهنام ميخائيل مدرسة واقعية ومثالية في نفس الوقت , قل نظيره من الاساتذة الذين زاملوه في الدراسة والتدريس , له فلسفته في حباته الاسروية , والمهنية , صحيح انه كان رب اسرة متكونة من زوجة وطفلته ( منى ) الا انه كان متفرغا للتدريس , انه العالم الذي يجنح اليه , ويستانس به مكرسا كل جهده وامكانياته التدريسية لطلبته في معهد الفنون الجميلة , هذا الاستاذ الذي يتوهم كل من يعتقد بانه يستطيع كسب صداقته , لانه لا يعير لها اهمية بقدر مايؤمن , ان صديقه هو الذي يحبه ويطبق توجيهاته وتعليماته في حياته الواقعية والفنية , من حيث ان يكون جديا, ومثقفا , ومبدعا , وان ينتزع اعجابه مصفقا له وبكلمته المشهوره ( برافو ياولدي الحبيب) .
كان بهنام ميخائيل يساعد الطالب ويهتم بكسر حاجز الخجل عنده , ويهتم برفع جرأته الادبية بشتى التمارين والذي كان يطبقها على الطلبة من اللذين يعتقد بانهم يحتاجون لمثل هذه التمارين , مثلا , كان يطلب من احد الممثلين ان يخلع قميصه واحذيته ويسير حافي القدمين في الشارع العام , وعلى مرأى من الناس , ويطلب من الطالب ان يقدم له تقريرا مفصلا عما كان بسمعه وان يحتفظ بردود افعاله واحاسيسه كتجربة مختزنة , كان يطلب من الطالب ان يتكلم مع الحيوانات ويراقبها , يطلب من الطالب الاستئذان من الباب حينما يروم فتحه ليدخل الى الداخل , ويستاذن من الكرسي للجلوس عليه , وان يسير في القاعة بكل هدوء وسكينة وعلى رؤؤس اصابع القدمين.
جميع هذه التمارين والتي ذكرتها , هي عبارة عن تمارين لضبط النفس وتقوية الارادة , بالسيطرة على ردود افعال الشخصية , واعتبارها تجربة مختزنة يستفيد منها في حرفيته كممثل , يسترجعها وقت الحاجة ليجسدها على معالم الشخصية والمسخرة على المسرح , ثم ان هذه التمارين هي التي تساعد على تربية روح الشخصية و اذا ماعلمنا بان الممثل الحرفي وجب عليه ان يفكر , بثلاث دوائر قبل الدخول الى الحدث في الدائرة الصغرى , وان يكون في حالة الاسترخاء والتامل في الدائرة المتوسطة , اي خلف الكواليس و مابعد الدائرة الكبرى والتي تعني بارتداء الملابس وعمل المكياج , وتتوضح اكثر في مقولة الاستاذ بهنام ميخائيل حينما يطلب من الممثل وهو في الدائرة الوسطى ان يسال نفسه , متى و ولماذا , واين , وكيف سادخل ؟, وكذالك يطلب من الممثل ان لاينسى( لو او اذا السحرية) و لانه من خلالها سيتمكن من الاجابة على عدة تساؤلات تساعد على اكتمال الشخصية بكامل مواصفاتها الطبيعية والداخلية , اضافة الى كل هذا فحينما يكون الممثل في الدائرة المتوسطة , اي ماخلف الكواليس وهو في حالة الاسترخاء والتامل ,عليه ان يسال نفسه , متى سادخل ----ولماذا سادخل ----- وكيف سادخل ------واين سادخل ؟, عندها سيكون متهيئا لاستحضار الشخصية الخارجية ( المعالم الطبيعية و والداخلية ) وعندها سيكون متهيئا وهو على اتم الاستعدادات لان يدخل الدائرة الصغرى ليواجه جمهوره .
في مسرحية الاب للكاتب سترنبرغ , كلفني ان اكون مديرا للمسرح , وانا كلي خوف من شدة صرامته , وقلقي من انني سوف لا استطيع التعامل معه , وسوف اخفق في تدوين ملاحظاته , والالتزام بتوجيهاته , وحينها , حينما كنت اتابع رسم حركة الممثل وملاحظات الاستاذ بهنام كمخرج للمسرحية , كنت في حينها اركز على كيفية نعامله مع الممثل اثناء رسم الحركة على المسرح .
في معهد الفنون الجميلة , وحينما كنا نسير على رؤوس اصابع اقدامنا , وتحت انظار الاستاذ بهنام ميخائيل , كان يقول : ( ترى مايعبر عليّ شي , الملتزم اني اعرفه , وكل تفاصيل حركاتكم توصلني بالدقة ) بهذا الاسلوب كان يستفزنا ويجعلنا ملتزمين بتعليماته , وبعد تخرجنا , توصلنا الى شيء اسمه ( الاخلاق التربوية في مسرح بهنام ميخائيل ) اضافة الى هذا تعرفنا على مدى فائدة مدرسة واسلوبه في تكوين شخصية الممثل , وتطوير مهارته وصقلها والغرض من هذا خلق ممثل جاهزا حرفيا ومتكاملا على المسرح .
وكثيرة هي التفاصيل مع مدرسته , الا اننا مهما تعمقنا في هذه التفاصيل , لا يمكننا ان نصل الى ماكان يهدف اليه هذا المخرج الرائع صانع الفنانين من الممثلين العراقيين , انه الفنان الرائد بهنام ميخائيل , رحمه الله واسكنه ملكوت السماوات في الحياة الابدية مع الابرار من الذين رحلوا في رحلة روحانية سمائية , ترك لنا تراثا وارثا , ومدرسة في التدريس والاخراج , لا يمكننا نسيانه .
وفي الختام لم اذكر الا شيئا قليلا من بحر كبير لمدرسة الاب الروحي بهنام ميخائيل وهذا مااسعفتني به ذاكرتي من استحضار في هذا البحث المتواضع , أأمل انني سأوفي بحقه في بحوث اخرى , انشاء الله , انما يبقى الاستاذ الراحل بهنام ميخائيل عمود من اعمدة التدريس التربوي في المسرح ,قل نظيره في عالمنا التربوي , العالم المسرحي والذي ودعه الراحل بهنام ميخائيل.