لنتذكر السباح الدولي علاء الدين النواب

لنتذكر السباح الدولي علاء الدين النواب

د . حميد السعدون

رحل عن عالمنا قبل أيام قليلة السباح العراقي والشخصية الاجتماعية المعروفة الأستاذ علاء الدين النواب ، وبرحيله عن 94 عاما تجدد الحديث عن فوزه العالمي النادر بعبوره بحر المانش متفوقا على اشهر سباحي عهده ، وقد اخترنا لهذه المناسبة المقال التالي الذي نشرناه قبل سنوات .

فِي عام 1956، تذاكر العرب، ضرورة ان تكون لهم سباقات منظمة في مختلف الالعاب، لذلك اقيم في لبنان صيف ذلك العام سباق العرب الاول لسباحة المسافات الطويلة بين مدينتي بيروت وصيدا، لمسافة (42 كم). وقد شارك فيه – علاء النواب- ممثلاً عن العراق، رافقه فيه مرافقه وصديقه «عزيز الحجية- ابو حياة».

ولم تكن اجواء السباق ملائمة او مواتية للانطلاق في جو ممطر وهائج على غير العادة في تلك الايام. انتظر المشرفون على السباق ساعة وساعتين وثلاثة، عسى ان يهدأ البحر، لكنه عاندهم في ما ارادوه. حينما ابتدأ السباق كان جميع المشاركين قد نزلوا البحر للفوز في السباق، لكن بعد ساعة، لم يبق غير خمسة سباحين- اربعة محترفين يتقدمهم بطل ابطال العالم السباح المصري “عبد اللطيف ابو هيف” وخامس هاو، لم يكن غير علاء الدين النواب، الذي ظل يصارع امواج البحر الابيض المتوسط، طيلة اكثر من (23) ساعة متواصلة، ليصل الى خط النهاية، مع بقية مجموعة المحترفين، بعد ان فقد ازاء الموج العالي للبحر، مرافقه “ابو حياة” الذي تاه وابتعد، معتقداً ان علاء الدين قد غرق، فظل ينتحب طوال فترة مصارعة النواب للامواج العاتية، حتى قهرها بوصوله اولاً على فئة الهواة وثالثاً على الترتيب العام، وكان تحدياً جميلاً خرجت منه سمكة دجلة الذهبية، بذخيرة كبيرة من الخبرة والعلم والمعرفة، بشؤون البحر واحواله وبعد عودته مكللاً بالنصر، استقبله الملك فيصل الثاني، ملك العراق، في حينه، مشيداً بما انجزه، وكرمه بساعة ذهبية كذكرى لهذا الانتصار. وتكررت المشاركة بنفس السباق عام 1957، وتكرر الفوز ايضاً وبرقم قياسي جديد لفئة الهواة لا يزيد عن (15) ساعة و(56) دقيقة، ووصل ثانياً في الترتيب العام بعد السباح العالمي المشهور –ابو هيف-. وكانت فرصة اخرى للتعلم والمطاولة والتحدي في سباقات القوة والرشاقة. ولان سباقات السباحة العالمية للمسافات الطويلة، كانت تقام سنوياً، اثناء فترة الصيف تحديداً، فقد شارك –علاء الدين- عام 1957، لاول مرة في سباق كابري- نابولي في ايطاليا، والذي كان يعد في حينه السباق النهائي لابطال العالم في السباحة لكلا الفئتين (الهواة والمحترفين) واحرز المركز الاول على العالم لفئة الهواة، وكان فوزاً مدوياً وهائلاً وكبيراً استقطب فيه –علاء الدين- اهتمام المعنيين بهذه الرياضة، والذين اقترحوا عليه، ان يعلن احترافه، الامر الذي سيدر عليه ارباحاً واموالاً كثيرة من الشركات التي ستتعاقد معه لغرض تمثيلها في السباقات اللاحقة. وكانت مواصفات –علاء الدين- متوافقة وهذا الاقتراح، فهو شاب طافح وجسم ممشوق ورياضي باهر، هذا غير كونه يحمل اسم –علاء الدين- ومن بغداد التي تشكل في ذاكرة جميع الشعوب، مدينة العلم والمغامرات وحكايات الف ليلة وليلة، كما ان قصص السندباد البحري ورحلاته ومغامراته والاهوال التي لاقاها، يعرفها الجميع، والاثنان من العراق حيث بدأت المغامرات. كانت المواصفات متطابقة وكانت الاجواء تزكي مثل هذا الامر، لكن –علاء الدين- لم يكن من اولئك الذين تستهويهم المادة، او الذين يرهنوا ارادتهم عند احد الشركات الراعية لنشاطه، لذلك رفض رفضاً قاطعاً مثل هذا الاقتراح، لانه وجده خارج السياقات الفكرية والانسانية التي يؤمن بها. واخبر محاوريه، انه يعوم في الانهار والبحار من اجل المتعة، وليس من اجل الكسب المادي، ولذلك سيظل هاوياً كما بدأ. ولم يتسن للنواب، المشاركة في سباق كابري –نابولي عام 1958، بسبب المتغيرات السياسية التي عصفت بالعراق صيف ذلك العام، مما فوت عليه فرصة كبيرة للفوز بهذا السباق العالمي. الا ان النواب، عوض هذا الانقطاع بالمشاركة في السباق المذكور عام 1959، ليحصل على المرتبة الخامسة فيه، بسبب العطل المفاجئ بزورق مرافقه “عزيز الحجية” الامر الذي اخره اكثر من ساعة لانتظار اصلاح الزورق، رغم اصرار –الحجية- على النواب بضرورة المواصلة دون داع للانتظار، الا انه اخبر –ابا حياة- اننا بدأنا سويةً وسننهي السباق سويةً ايضاً. وهذا ما حصل. ورغم ان المرتبة الخامسة، لم تكن تشكل بريقاً لمن يحتلها، الا ان الجميع كان يعرف النواب وقدراته، والسبب الذي عطله عن المواصلة لمدة ساعة، مما فوت عليه الفرصة للفوز وباستحقاق كبير. ومن جديد، يقترح الجميع عليه، ان يحترف، وكان اكثرهم الحاحاً، السباح العالمي “ابو هيف” لما رأى فيه من امكانات تؤهله لاحتلال المراكز المتقدمة في السباقات العالمية المتعددة، والتي يقيمها الاتحاد الدولي، تحت رعاية المؤسسات الخاصة والعامة في اوروبا وفي امريكا. كما ان اجواء السينما العالمية ومنتجيها، كانت تبحث عن الوجوه الجديدة من ذوي المواصفات الرياضية المتميزة، والتي كان –النواب- يجسدها بشكل اقرب للتطابق. ومن جديد، يكون رد –النواب- الرفض التام لمثل هذه المقترحات، لانها تتقاطع وما يؤمن به من سمو وخلق رياضي وانساني. وكتعويض عما حصل عليه من مركز في سباق كابري- نابولي عام 1959، يقرر –النواب- ان يدخل مغامرة جديدة، لم يسبقه بها من العراقيين احد، حين يقرر، ومعه –الحجية- ان يشاركا في اجتياز بحر المانش في سباق كاليه –دوفر، الذي جرى شهر اب/ اغسطس 1059. ورغم طبيعة بحر المانش الهائجة طيلة ايام السنة وبرودة مياهه، الا ان –النواب- قهره، بعد ان كان واحداً من ستة سباحين اكملوا المشوار، من بين المشاركين عند خط الانطلاق والذين بلغ عددهم (43) سباحاً. وتجربته في هذا العبور وفي عام 1959، لم يكن يسبقه فيها الا قلة لم يتعدوا اصابع اليد. ومن جديد، كان فوز النواب، فوزاً عراقياً كبيراً، ومن جديد اقترح عليه الاحتراف، وكان رده بسيطاً، يتلخص بتقديم الشكر لهم واخبارهم انه هاو حقيقي. وقد نقلت محطة (B.B.c) وقائع السباق على الهواء، والتي ارتبطت معها اذاعة بغداد لنقله مباشرةً. وبعد عودته استقبله الزعيم –عبد الكريم قاسم- الذي اشاد بانجازه الكبير، مثمناً جهوده في ما تحقق. ان المشاركة الواسعة التي وضع بصماتها الحقيقة –علاء الدين- النواب، في سباقات السباحة العالمية، ابتداءً من بيروت عام 1956، كممثل للعراق ولاسماك دجلة، كانت مشاركة شخصية تحمل نفقاتها ومعه مرافقه –عزيز الحجية- على نفقته الخاصة، ولم يكلف الدولة او اتحاد السباحة العراقي، اية مصروفات مالية، بل انه حتى ما كان يحمله من هدايا وتذكارات عن العراق خلال مشاركاته الواسعة، ويوزعها مجاناً، كان يتحمل اثمانها من جيبه الخاص، طارحاً نفسه بطريقه “حنبلية” مذهلة.

عن كتاب ( رجال وتاريخ )