نهى الراضي التحقت بكائناتها الفريدة

نهى الراضي التحقت بكائناتها الفريدة

مي مظفر

صعق الوسط الفنّي العراقي والعربي آخر أيّام آب (أغسطس) الماضي, برحيل الفنانة العراقيّة نهى الراضي بعد صراع مع المرض الخبيث. جاء رحيلها بعد مرور أربعين يوماً على وفاة مواطنها الفنان إسماعيل الترك الذي صعقه المرض نفسه.

وقبلها بأيام أحيا الوسط الفني في عمّان أربعينية الدكتور خالد القصاب, أحد جماعة الرواد وذاكرتهم الحيّة, فيما لم تكد تمضي ستة أشهر على رحيل شيخ الفنانين شاكر حسن آل سعيد. فكأننا في حضرة موسم مأسوي, يحصد المبدعين العراقيين, فيما بلادهم تعيش أيّام تحوّلها الصعبة!

ومن يعرف نهى الراضي (1941-2004) يعرف أي جوهر نقي كانت تملك هذه الفنانة, وأي روح وهاجة. ولعل ذلك كان سر انجذاب الكثيرين إليها من شخصيات فكرية وفنية عربية وعالمية. هي, التي جعلت من الفن ملاذاً لوجودها ومرآة نقية لشخصيتها الفريدة, كانت بحق جسراً سالكاً بين العراق الساكن في وجدانها, إرثاً وحضارة وشعبا, وبين تراث الشرق الذي وجدت فيه نموذجاً يُحتذى, والغرب الذي اكتسبت منه علومه وتقنياته الفنية.

أمضت نهى طفولتها في الهند, حيث كان والدها سفير العراق لسنوات طويلة, وتلقت تعليمها في المدارس الإنكليزية هناك قبل أن تنتقل إلى لندن وتكمل تعليمها التخصصي في فن الخزف, ثم تستقر في بغداد.

نهى الراضي فنانة تجلت موهبتها في فن الخزف, وكانت خزافة من الطراز الأول بين الخزافين العراقيين والعرب لتكامل صنعتها, وطرافة الأفكار التي كانت تستوحيها من الموروث المحلي وتصوغها صياغة أخاذة في جمالها. في الهند تفتحت نهى على التراث الثقافي والشعبي الهندي الغني, وإعادة إنتاجه في الفن. نشأت في وسط ثقافي, ودأبت منذ صغرها على الاتصال بالآثار العراقية أينما وجدت في متاحف العالم, وتوثقت صلتها في ما بعد بأعمال التنقيب من خلال مرافقتها لشقيقتها عالمة الآثار المعروفة الدكتورة سلمى الراضي. لقد وضعها ذلك الوعي المبكر بالموروث المحلي والشرقي على الطريق الصحيح للتميز في وقت كانت الأنظار فيه لا تتطلع إلا لحضارة الغرب.

وفي دراستها الفنية في لندن تمرست نهى على استخدام التقنيات الحديثة واكتسبت الجرأة في الإبتكار وحرية الطرح. وظلت أعمالها تفاجئ جمهور الوافدين إلى معرضها بجدة طرحها, وطرافة موضوعاتها وإحساسها العالي بالجمال. غير أن نهى, وفي مطلع عقد الثمانينات من القرن الماضي, صحت ذات يوم لتتخذ قراراً خطيراً شكّل منعطفاً هائلاً في حياتها الفنية. قررت أن تتخلى عن فن الخزف مدركة أنها وصلت إلى نهاية الطريق. وبكل جرأة تنازلت عن موقعها الريادي, لتعود ثانية إلى أول الطريق وتقف مثل تلميذة مبتدئة تتهجى أبجدية اللغة الفنية, تتمرن على الرسم, وتتعرف إلى فنون الخط واستخدام الزيت وتقنيات التصوير. وسرعان ما وجدت شيئاً من ضالتها في فن الحفر والطباعة (غرافيك) .

الفن لدى نهى كان طريقة حياة، فلا تدخل مضماراً إلا وكانت شخصيتها تتحكم فيه. في فن التصوير لجأت نهى إلى موضوعات أثيرة إلى نفسها: تصوير الناس المحيطين بها, والطبيعة التي تعشقها وتبتدع مفرداتها باستيحاء من مشاهد طبيعية عراقية, وبرؤية تعيد اكتشاف المشهد من ذاكرة خلاقة. وقادها عشقها إلى أن تشيد دارها وسط بستان غني بأشجار النخيل والبرتقال والنارنج والرمان, في شمال بغداد. وهي الدار التي عايشت فيها أحداث حرب الخليج الثانية, وسجلت في كتابها الشهير “يوميات بغداد” مفردات حياة يومية في أدنى حالاتها الإنسانية, تحت وطأة الحصار والقصف.

أنتجت نهى مجموعة أعمال تصور مشاهد متخيلة من الطبيعة, وصوراً لأصدقاء تتمثلهم دائماً داخل مشهد طبيعي, فيه الكثير من الطرافة, وبمسحة مقاربة للفن الفطري. وقد يحار الناقد في تصنيف هذه الأعمال وتقويمها, غير أنه لا يخرج إلا بقناعة واحدة: تلك هي نهى الفنانة التي تعبر عن شخصيتها الفريدة من خلال فنها أيا كانت وسيلته.

وإذ اعتادت الفنانة التعبير بالأشكال المجسدة, ثلاثية الأبعاد, وتمرست على مصاحبة رحلات الاستكشاف الآثارية, ولامست التاريخ بيديها, وقلبت أحجاره, كانت قادرة على التوصل إلى لغة بديلة تستنبط مفرداتها من الأرض. وتحقق لها ذلك من خلال استخدام الأحجار التي بحثت عنها في بغداد وعمان وبيروت, أو أينما حلت في عواصم العالم. فانطلقت تجربتها الجديدة في استخدام الحجر وتلوينه وتركيبه, وصقل سطوحه, وإضفاء ملامح بشرية أو غير بشرية على مفرداته. في هذه التجربة وجدت نهى نهجاً توافقياً ما بين فن الخزف وفن الرسم. بل عادت بشكل أو بآخر إلى استنطاق الطبيعة, وإعادة إنتاجها برؤية نابعة من إحساسها بالانتماء إليها والتعامل معها تعاملاً مفرطاً في إنسانيته.

لكنها, وقبل تلك المرحلة كانت توصلت إلى لغة تعبيرية أخرى وجدت مفرداتها في قطع الغيار التالفة للسيارات, أو ما يصل إلى يديها من مواد معدنية مهملة كانت تلقاها على قارعة الطريق. إذ أوحت لها هذه الأشكال التي قدمتها في معرض شخصي في بغداد أولا, ثم في عمان لاحقاً (“دارة الفنون”, صيف 1995), ما يمكن أن يكون قد آل إليه حال شعب محاصر بين قبضة داخلية جبارة, وقبضة خارجية لم تقم للإنسانية أي اعتبار. لقد تحول العراقيون في الداخل إلى أشكال مفرغة تالفة, ناهيك عن نظرة الفزع والأسى المنبعثة من ملامح كائنات في مسيرة احتجاجية صامتة.

ومع اشتداد سنوات الحصار, وبعد صدور كتابها ذائع الصيت “يوميات بغدادية”, اختارت نهى الإقامة في بيروت, المدينة التي أمضت فيها الفنانة بعضاً من سنوات شبابها, تدرس فن الخزف في الجامعة الأمير كية, وشهدت أول معارضها الخزفية, وراج اسمها في فضاءاتها الفنية قبل أي مكان آخر. وفي بيروت انطفأت شعلة روحها الوهاجة.

الحياة 2004/9/5