الرصافي ومعركته مع وزارة المعارف .. قصة سلفة طبع ديوانه

الرصافي ومعركته مع وزارة المعارف .. قصة سلفة طبع ديوانه

مصطفى علي

في سنة 1931 كان نوري السعيد رئيسأ للوزراء , وكان معروف الرصافي يومئذ نائبا عن لواء العمارة فآستطاع بما له من صداقة مع رئيس الحكومة ان يتسلف من وزارة المعارف مبلغآ قدره اربعة الاف روبية (حوالي 300 دينار) لطبع ديوانه على ان تسترد تلك الوزارة هذا المبلغ بخمسة اقساط تدفع بعد ان ينتهي طبع الديوان .

وقد نال الرصافي وعدآ بأن يستوفى بدل هذا المبلغ نسخآ من ديوانه.

غير ان وزارة المعارف شرعت طالبة بتسديد المبلغ قبل ان يتم طبع الديوان فيتحقق الشرط . فكتب الى وزارة الماليه ( كان وزيرها انذاك رستم حيدر ) بذلك فأجابتها بكتابها المرقوم 4814/158/7 المؤرخ في 3/ 4/ 1932 بأنها ترى (أمر تعقيب استرداد سلفة كان يجري من قبلكم مباشر) وارسلت نسخة من هذا الكتاب الى رئاسة مجلس النواب طالب ان (تستقطع مخصصات الرصافي النيابية).

فأجابت رئاسة مجلس النواب برئاسة جميل المدفعي (بانها علمت من الرصافي نفسه (أن الاتفاق الذي تم بينه وبين وزارة المعارف يقضي باستيفاء السلفة المدفوعه اليه البالغة (4000) روبية خمسة اقساط تدفع بعد انتهاء طبع الديوان . فبالنظر الى ذلك لم نرى امكانا لقطع شئ من مخصصات الاستاذ في الوقت الحاضر).

وبعد ان تم طبع الديوان لم تشأ وزارة المعارف ان تشتري من الديوان اكثر من عشرين نسخة , فاعتذر الرصافي عن ان يبيع هذا العدد الضئيل وهو الموعود بأن يسدد المبلغ الذي تسلفه نسخأ من الديوان.

ثم عادت وزارة الماليه تطالب الرصافي بتسديد المبلغ الذي بذمته فكتبت الى رئاسة مجلس النواب كتابها المرقوم 1532 المؤرخ في 8 شباط 1934 زمن ( الوزير نصرة الفارسي ) تطلب اجراء مايقتضي لاستيفاء السلفة المذكورة بالاقساط الشهريه المناسبة وقد اصبح الرصافي حينها نائبآ عن لواء بغداد فآخذت محاسبة مجلس الامة تحسم من مخصصات النيابية خمس وعشرين دينارا كل شهر ..

ثم حلت وزارة علي جودت المجلس النيابي والرصافي مشغول الذمة بمبلغ قدره مائتان وخمسة وعشرين دينارا واربعمئة وستة وثلاثون فلسا . وعندما التئم المجلس الذي تولت انتخابه تلك الوزارة لم يكن الرصافي من اعضائه , فضل مثقلا بذلك الدين الضخم بالنسبة اليه , فلم تنتشله من تلك الورطة الا الوزارة الهاشمية التي اصدرت ( قانون اعفاء مبالغ غير قابلة التحصيل وتعويض الملتزمين رقم 58 لسنة 1935 فأدخلت في ضمنه الدين الذي بذمة الرصافي وانقذته منه ) ...

وقبل ان يستقر رأي الوزارة على ابراء ذمته من الدين من طريق التشريع , رجحت وزارة المالية ( بزمن الوزير يوسف غنيمة من الشخصيات اليهودية الذكية والحريصة على المال العام ) في كتابها المرقوم س / 153 المؤرخ 28 شباط 1935 أن تبتاع وزارة المعارف كمية من الديوان تعادل قيمتها طلب الخزينة , ورأت أن في موافقة وزارة المعارف على اقتراحها هذا ابراء ذمة الرصافي بصورة لائقة ورعاية لخدمة الادب معا حتى ولو وزعنا الكمية المشتراة على طلاب المدارس مجانأ , فأجابت وزارة المعارف ( بزمن الوزير محمد رضا الشبيبي ) بكتابها المرقوم س/220 المؤرخ 28 نيسان 1935 بأنها تحبذ ابراء ذمة الرصافي مما عليه للخزينة رعاية لحرمة الادب وهي ترى ان العدد الذي يتسنى لها شراؤه من الديوان لايتجاوز مائة نسخة .

آما اقتراح وزارة المالية توزيعه على طلاب المدارس مجانأ , فلم تر وزارة المعارف ان يبتذل بالتوزيع ولو كان مجانأ , وان الوزارة لم تر مانعأ من شطب مابذمة الرصافي للخزينة بطريقة من الطرق القانونية اذا كان في ذلك رعاية لحقه وصيانة لشأن الديوان , فكتبت وزارة المالية الى الرصافي برغبة وزارة المعارف في شراء مائة نسخة من الديوان ..الا ان الرصافي اجاب الوزارة بعدم امتلاكه لنسخ اضافية فقد ذهبت جميعها شذر مذر والباقي منها ليس في ملكي ولاتصرفي وان الحكومة العراقية استردت ربع سلفتها واستغرب قائلا ان وزارة المعارف اشترت من كتاب الريحاني والارناءوط ثلثمائة نسخة وهي تطالبني بمائة نسخة الان بعد كل هذا الدين المتراكم من سنين..

وقد ذكر معروف الرصافي انه احترقت غرفته التي كانت بجامع نائلة خاتون ونجم عن هذا الحريق الاثاث البسيط واحتراق نحو ستمائة من شعره في عز الطلب على شعره بذاك الوقت وقال الرصافي انهم تعمدوا احراق الغرفة وقد نجا منها وكانت جريمة متعمدة وهو القائل

فيا قوم ان العلوم تجددت فأن كنتم تهوونها فتجددوا

وخلوا جمود العقل في أمر دينكم فأن جمود العقل للدين مفسد رحليه في ليلة 16 مارس 1945 فجعت محلة السفينة بالاعظمية بنبأ وفاة معروف الرصافي كما وفجعت عشيرة الجباريه الكوردية بلواء كركوك لفقد عزيزهم معروف ابن غني الجباري الرصافي...

ويبدوا ان خادمه عبد نسي وقع المصاب ذلك اليوم وجاء يستعطف ان يعطى مابقي من المال الذي خصص للتجهيز والتكفين , فلم يكف عن الالحاح في الطلب حتى اخذ شيئا منه , حمل النعش وقد وضعت بمقدمة التابوت كوفيته وعقاله اللذان كان يلبسهما وبعد ان صلى عليهالشيخ حمدي الاعظمي ولحد ودفن معروف الرصافي بمقبرة الاعظمية وقبل ان يودع مستقرآ , أبنه محمد صالح بحر العلوم بهذه الابيات:

بأي فم أرثيك يامخرسآ فمي

وهذا فمي قد عبه الحزن بالدم

ومن أي قلب استمد تجلدآ عليك

وهل قلب بدون تآلم ؟

نعاك لنا النعي فقلنا دعاية

يراد بها تفريق شعب منظم

أشاعر هذا الجيل أيتمت أمة

بغير افتقاد الحر لم تتيتم

تحررت من قيد الحياة وعفتها

لرهط بلا قلب يعيش ولا فم

لم يكف خادمه عبد بطرق ابواب اصدقاء الرصافي وطلب معونتهم وكان يطرق باب كل صديق بعد أن يعرف بنفسه انه هو المقصود والمذكور اسمه في وصية الرصافي , فأوصى بثمن كتبه الى بناته , ولم يدخر وسعأ في أن يبرق البرقيات ويرسل الرسائل ..

ان الواجب كان يدعونا أن نحتفظ بما ترك الرصافي من الاثاث في غرفته وأن قال في وصيته (انه لايملكه ... ) وبفراشه الذي كان ينام فيه , ولباسه الذي كان يلبسه في اواخر ايامه الى ان تسعف الظروف فيشيد له ضريح فتوضع في محل فيه ... الا ان خادمه عبد كان الاذكى والاسرع فقد اسرع حمل كل ماكان يملكه الرصافي وباعها في السوق وأخذ اثمانها . حتى ان محمود الفارس الجرباوي مختار محلة خضر الياس من محلات بغداد ( وهو ابن خالة الرصافي ) حين سمع بأن عبد يبيع تركة ابن خالته , قصد الى السوق ليشتريها فلم يظفر بسوى ساعته فأشتراها واحتفظ بها ...

عن كتاب (الرصافي وصيته ، صلتي به ...)