(الخاتون) المس بيل وعرش فيصل الاول

(الخاتون) المس بيل وعرش فيصل الاول

جاسم الوصيف

انتهى مؤتمر القاهرة في ٢٥اذار ١٩٢١ ، وأعلن تشرشل أمام البرلمان الإنجليزي أن المؤتمر قد حقق آل أهدافه المرجوة فيما يتصل بالعراق، فستنخفض القوات البريطانية من ٣٣ إلى ٢٣ فرقة، وأن التكلفة ستنخفض العام الأول ٥ ملايين جنيها استرلينيا، وفي العام الثاني ١٢ مليونا.

في طريق عودتها إلى بغداد،اخذت الخاتون تفكر في التحدي الذي عليها أن تواجهه لإقامة العرش الفيصلي في العراق. فمن جهة، يجب عليها إقناع العراقيين بأن فيصل هو المرشح الأفضل والوحيد. ومن جهة ثانية، يجب أن تتجنب أن يظهر الملك الجديد آدمية في يد الإنجليز. وكان أكثر ما تخشاه أن يأتي فيصل إلى العراق ولا يجد مِن العراقيين سوى الخذلان، ومر بخاطرها ما وقع لجده الأعلى الحسين بن على في كربلاء في العاشر من المحرم سنة ٦١ ه وتمنّت ألا تتكرر تلك السالفة مع سليله فيصل، وإلاّ، فستكون الطامة الكبرى لها وللسياسة الإنجليزية في العراق.

بعد وصولها إلى بغداد في ١٢ /نيسان ١٩٢١، علمت الخاتون أن وزير الداخلية السيد طالب قد استغل غيابها وبدأ في العمل من أجل أن يتولى الأمرَ نقيب بغداد، راميا بذلك إلى السيطرة على الشيخ المسن ثم يتولى السلطة من بعده، وراح يحاول استمالة شيوخ القبائل ووجهاء العراق إلى صفه تحت شعار "العراق للعراقيين". ولم تتأخر الخاتون في التحرك، فأرسلت تقريرا إلى كوكس( المندوب السامي ) ذكرت فيه أن السيد طالب يحرض على "الجهاد" والثورة ضد الإنجليز، وأنه قادر على عمل أي شيء من أجل تحقيق أهدافه، ولذلك فإنه من الضروري اتخاذ إجراء سريع بهذا الخصوص. وفي نفس اليوم دعت السيدة كوكس السيد طالب والخاتون إلى حفل الشاي المعتاد يوم السبت، ولم يكن حاضرا زوجها سير برسي كوكس. وصل السيد طالب في الرابعة إلا ربعا عصرا، ومكث حوالي نصف ساعة، ثم استأذن في الانصراف، فصحبته الخاتون مبتسمة إلى سيارته، وودعته ثم عادت إلى منزل كوكس. وذهب السيد طالب ولم يعد إلاّ بعد أربع سنوات، ففي الطريق اعترضته قوة بريطانية واعتقلته، وبعد يومين نُفِي إلى سيلان. وبذلك أزيحت عقبة كبيرة من طريق اختيار فيصل، وعلقت الخاتون على ذلك بقولها إنه "لم يرتفع ولا صوت واحد ضد ضربة آوآس، وعلى العكس، شعر البلد كله بالراحة لاستبعاد طالب". ولكن جاءت المعارضة من حيث لا تحتسب الخاتون، جاءت من صديقها فيلبي مساعد كوكس ومستشار وزير الداخلية، فقد اعترض على نفي السيد طالب، وأظهر معارضته الشديدة لقيام ملكية في العراق تحت ولاية فيصل، وقدم استقالته. ولكن كوكس رفض الاستقالة مؤكدا لفيلبي أن البريطانيين لن يفرضوا فيصلا كملك، وأنه أي كوكس يحتاج إليه(إلى فيلبي) لإدارة وزارة الداخلية. ورغم هذا لم تمض ثلاثة أشهر حتى عزل فيلبي من منصبه بسبب رفضه التعاون مع الإدارة البريطانية من أجل الترويج لفيصل، ولم تكن الخاتون بطبيعة الحال بريئة من إبعاد فيلبي كما صرحت زوجه.

في ١٢ حزيران ١٩٢١ وصلت برقية تفيد بأن فيصلا في الطريق إلى العراق، وانتاب الخاتون شعور بالراحة، ولكنه كان ممزوجا بقدر كبير من القلق والشك فيما يمكن أن يحدث عندما يصل الموعود بالعرش إلى بغداد. فمن جانب، كانت تخشى أن تؤدي السياسة الإنجليزية الرامية إلى وضع أمير عربي على رأس بلاد عانت طويلا من وطأة السيطرة الأجنبية إلى تنامي الروح القومية، وإذا كانت الخاتون لا ترى بأسا من القبول بشعور قومي معتدل غير معاد للأجنبي، فإنها كانت تتخوّف من أن يشكّل الشعور القومي المتصاعد تهديدا للوجود الإنجليزي في العراق: "لدي في أعماق عقلي قناعة بأنه لا يوجد شعب يحب أن يكون محكوما من آخر بشكل دائم. إننا الآن نعمل على تأجيج الشعور القومي، لكن أنا دائما مستعدة للقبول بروح قومية لا تكون بدورها معادية للأجنبي، وذات إمكانات متواضعة على الرسوخ بقوة". ومن جانب آخر، كانت تعلم أنه من الصعوبة إقناع العراقيين بفيصل يتجه إلى العرش محمولا على أكتاف البريطانيين، في حين يكون من السهولة القبول به لو تقدم صفوف العراقيين وقادهم إلى التحرر من الاحتلال الإنجليزي، فالأمر حقا يتطلب من الجانبين: الإنجليز وفيصل قدرا هائلا من الحنكة والمهارة والمثابرة: "إن فيصلا وهو يتقدم ونحن آخذين بيده لصورة تقل آثيرا في تأثيرها العاطفي من صورته وهو يقود الجهاد. إنه لن يتزعم الجهاد، فهذا ليس أسلوبه، ولكن هل سنقدر أن نفعمه بالحيوية الكافية – دون أن نفعل ذلك ــ علنا– لكي ينال المرام في إقامة دولة عربية؟ إن كل هذا سوف يعتمد على شخصيته، وعلى الفطنة التي سيبديها سير برسي بينما يكون قابعا في الظل".

أُعْلِن عن الوصول الوشيك لفيصل في "بغداد تايمز"، الصحيفة الحكومية التي تصدر باللغة الإنجليزية، وأُعدت السراي التركية لإقامته، وعقد اجتماع ضمّ ٥٠٠ من وجهاء بغداد، اختير منهم وفد من٦٠ شخصا، من بينهم صديق مقرب للخاتون ويعمل كجاسوس لها، لاستقبال فيصل في البصرة. كما عيّن كوكس مستشاره فيلبي مرافقا رسميا لفيصل.

وفي ٢٣حزيران علمت الخاتون بوصول فيصل إلى البصرة، وكانت الخطة أن يسافر مباشرة إلى كربلاء والنجف ليؤكد الأهمية الدينية لشخصه باعتباره من نسل الرسول، ثم يتجه شمالا إلى بغداد. وكان صباح الأربعاء ٢٩ حزيران موعد وصول فيصل إلى الحاضرة، غير أن برقية أفادت بأن وصول القطار سيتأخر إلى منتصف النهار. ولأن في هذا الوقت يشتد قيظ بغداد، وبالتالي سيقل عدد المستقبلين، فإنهم أرسلوا لفيصل يطلبون منه أن يؤخّر وصوله إلى السادسة مساء. وأخيرا وصل فيصل، وأجْرِي له استقبال رسمي بحضور سير برسي كوكس. ولمح الأمير فيصل الخاتون ضمن المستقبلين، فتقدم إليها مصافحا، وهذه تبادلت معه كلمات ترحيب مختصرة، ثم توجّهت لتحادث الرجل العملاق الذي جاء معه مصاحبا. إنه مستشاره الإنجليزي كيناهان كرنواليس، الذي كان يعمل في المكتب العربي بالقاهرة، ثم مديرا له، وبعدها ممثلا للجنرال اللنبي لدى الحكومة العربية في سوريا، ثم خرج من دمشق بخروج فيصل وظل ملازما له منذئذ. أخبرها كرنواليس أن استقبال الناس في البصرة لم يكن دافئا، وفي الطريق إلى بغداد كان الاستقبال يتراوح بين الفضول الصامت والعداء الواضح. كما ذكر لها أن فيلبي لم يكن ودودا مع الأمير، فقد أخبره أن المسؤولين البريطانيين لديهم تعليمات بأن الانتخابات ستكون "حرة تماما"، وأنه إذا اعتقد أنه سيكسب أصوات الناس اعتمادا على أنه مرشح بريطانيا العظمى، فإن احتمالات نجاحه ستكون ضعيفة، كما قال له إن العراقيين يريدون جمهورية وأنه نفسه (أي فيلبي) يؤيد ابن سعود كرئيس لهذه الجمهورية. وذكر كرنواليس أنه قد وصل إلى مسامع فيصل وهو في الطريق أن فيلبي ضده وأن الخاتون وسير برسي كوكس محايدان، ولهذا فإن الأمير يريد أن يعرف إن كان سير برسي في صفه، وإذا كان ذلك آذلك، فلماذا يقف الموظفون البريطانيون ضده؟

إذن لم يُستقبل فيصل بأذرع مفتوحة، وعادت ذكرى كربلاء تطل برأسها وتثير مخاوف الخاتون، فعقدت العزم على معالجة الأمر على وجه السرعة. وفي صباح اليوم التالي، وقبل أن تذهب إلى مكتبها، مرّت على السراي وقابلت فيصلا، ونقلت إليه رسالة اطمئنان فحواها أن سير برسي كوكس يقف معه تماما، ونصحته بأنه يجب أن يكون صريحا معه، كما أشارت عليه بأن يرى نقيب بغداد ويحاول بقدر المستطاع أن يستميله إلى صفه. وبالفعل، في نفس اليوم عاد فيصلٌ النقيبَ في بيته وتمنى له الشفاء من الوعكة التي ألمّت به وحالت بينه وبين الذهاب إلى المحطة لاستقباله. ولم تحقق الزيارة أآثر من كسر الجليد بين الرجليْن. ومن جهتها، لم تدخر الخاتون جهدا في إقناع النقيب بالبيعة لفيصل حتى تم لها ما رامت إليه. ففي يوم الخميس ٧ تموز ١٩٢١ دعا نقيب بغداد فيصلا للعشاء وبايعه ومن كان حاضرا من مؤيديه.

وكانت الخطوة التالية القضاء على معارضة زميلها فيلبي، والذي لم يتردد في عزله سير برسي كوكس على ما سلف ذكره، ويبدو أن جرترود كانت وراء ذلك حسبما كان يعتقد فيلبي نفسه وزوجه، إذ قال لها: "في هذه المرة قد كسبتِ"، فردّتْ عليه بأنها "لم تكسب، ولكن منْ تكسب دائما هي حكومة صاحب الجلالة".

وبعد أسبوعين أجْري الاستفتاء على فيصل في يوم الأحد ١٤ أغسطس/آب ١٩٢١ ، وكانت نتيجته حسبما أعلن سير برسي كوكس على رؤوس الحاضرين في حفل التنصيب على العرش، الذي أقيم صباح يوم الثلاثاء ٢٣ أغسطس من نفس العام، أن فيصلا اختير ملكا بموافقة ٩٦% من أصوات العراقيين. وليس بمستغرب أن تُشْتَم مبالغة واضحة في نتيجة الاستفتاء، وعلى أية حال، فإن نتيجة الاستفتاء كانت تحقيقا فعليا لإرادة السلطة البريطانية في العراق، ولعلها أيضا كانت مفتتح تاريخ النِسب التسعينية في المنطقة .

عن بحث

(لمحات تاريخية وشخصية من سيرة جرترود بِلّ )