رحلة كازانتزاكيس إلى فلسطين

رحلة كازانتزاكيس إلى فلسطين

د. حسيب شحادة

نيكوس كازانتزاكيس، رحلة إلى فلسطين ،أخطر وثيقة ضد الصهيونية يكتبها روائي ومفكر عالمي في أوائل هذا القرن. ترجم هذا الكتاب غير العادي إلى العربية منية سمارة ومحمد الظاهر وصدر في عمان عن مؤسسة خلدون عام ١٩٨٩ وفيه ٨٥ ص.

كانت صحيفة يونانية قد أوفدت هذا الروائي اليوناني المعروف إلى فلسطين عام ١٩٢٦ لتغطية احتفالات عيد الفصح في القدس. من مؤلفات هذا الروائي الكبير نذكر: تقرير إلى غريكو، الامتحان الأخير للمسيح، الوجد اليوناني، الحرية أو الموت، الأوديسا المعاصرة، موسى، زوربا، مخلصو الرب، آراء.

كانت كنيسة القيامة تعج بالناس كخلية نحل، العرب المسيحيون منفعلون ويصيحون ويصعدون إلى السطوح القرميدية وهم يرتدون الطرابيش والجلابيب. وآخرون قضوا ليلتهم على حصر من القش والكل تواقون لمشاهدة النور الرباني. وكانت أباريق الماء الرمادية المزركشة والمشروبات الروحية والشربات تنتقل من يد لأخرى وتحت الإيقونات كانت أباريق القهوة تغلي على المواقد المتنقلة والأمهات يرضعن أولادهن ورائحة العرق الكريهة منتشرة لتختلط بروائح الشموع المشتعلة والزيوت، وكل هذا يبعث على الغثيان. وجاء الأرمن والٍأقباط والأحباش ورعاة البدو والموارنة وبعض الروس والأمريكيين. والخلاف بين الطوائف المختلفة في كنيسة القيامة كان قائما وواضحا في ذلك الوقت أيضا. ويصف الكاتب الرجال العرب قائلا “طوال القامة، نحيلون، رشيقون، أما النسوة فسمينات، قبيحات، تتدلى على جباههن صفوف من القطع الفضية، وشفاههن تبرق بالنحاس”. ويصف الكاتب ما شاهد في مسجد عمر من كتابات عربية بأن حروفها مجدولة كالأزهار وتلتف حول الأعمدة كأشجار الكرمة المتسلقة. وهذا المسجد ينبض بالإيمان والروائح الزكية. ويقول عما رأى في تجواله في شوارع القدس المسقوفة والقذرة، الضيقة والمظلمة: “كان وميض عيون العبريين يومي (!) بالتهكم والقلق والتشهي والحسد. أما المسلمون فقد كانوا هادئين، مؤمنين بعمق وقناعة برعاية الله، وهم يرمقونك بنظرات لا ابالية محايدة، وأنت تمر بالقرب منهم”. وعن حائط المبكى، الأثر الباقي من هيكل سليمان، يقول الزائر اليوناني إن حجارته ضخمة ومرصوفة، الواحد فوق الآخر وتعلوها الطحالب، رهط من اليهود يصلون ويقبّلون الحائط والنساء تجمّعن في زاوية من الجهة اليسرى. وشاهد هناك فتاة بعد اتمامها لطقس الصلاة والنواح، أخذت ترسل نظرات شهوانية جائعة صوب الرجال، وكأن لسان حالها يقول لا شيء غير الحب قادر على حماية الذرية وزيادة اليهود وإعادة بناء الهيكل. ويذكر الكاتب أناسا من جنسيات وأماكن مختلفة قدموا لمدينة السلام للاشتراك في هذا “الطقس البكائي الغريب” مثل البولنديين والعراقيين والروس والإسبان واليونانيين والجزائريين. وعن الروح اليهودية يقول إنها تنوي قهر الأرض وجعل كل الشعوب تابعة لإيقاعها.

وفي جولته في الصحراء، ما بين القدس ونهر الأردن، لم تر عيناه زهرة واحدة ولا أي طير أو ورقة خضراء ولا قطرة ماء تتبخر من تلك الأرض القاحلة، الجبال موحشة، فيها الغراب ينعب، والثعالب تعوي ليلا، موطن مثالي للأنبياء والمتقشفين لا لبني البشر العاديين. أما أريحا فواحة غناء، حيث بساتين الرمان والموز والتين والتوت، محاطة بأشجار النخيل السامقة. مناظر مماثلة لهذه رآها كازانتزاكيس في حيفا والخليل، ويذكر تفشي مرض الحمى. في العصور التوراتية كانت فلسطين بلاد اللبن والعسل وقطوف العنب ضخمة لدرجة أن اثنين كانا يحملان القطف الواحد، أما في حينه جلب العرب، على حد قوله، صحراءهم الموروثة معهم.

ومما قاله حاخام ثري للكاتب:

“كل إنسان يحمل على عاتقه مهمة حقيقية تتعلق بالأشياء التي يجب عليه أن يحررها: عليه أن يحرر حيواناته، أرضه، أدوات تجارته، جسده، وعقله. إن عليه واجب تحرير كل هذه الأشياء. لكن كيف؟ عن طريق استعمالها وتهذيبها وتطويرها، فإذا لم يستطع تحريرها، فلن يكون بإمكانه تحرير نفسه، كذلك فإن لكل شعب مهمة رئيسة تتعلق بالأرض، والموروثات والأفكار، وهذه الأشياء يجب أن تتحرر. فإذا أرادت أن تتحرر، فيجب أن يمتلك الشعب اليهودي فلسطين”. وفي رحلته إلى حي شعفاط يذكر أضرحة لليهود هناك، أما قرية الياسمينة الصغيرة والقريبة فكانت غارقة في الظلام. وفي محادثته مع شابة يهودية باسم جوديت قدمت إلى البلاد من أوروبا يقول الروائي اليوناني “إنكم لن تجدوا السعادة والأمن في فلسطين … لكن، إذا كان الهدف من الحياة، وهدف الشعب بشكل خاص، أصعب من ذلك بكثير، وهو أن يناضل من أجل إحداث أقصى ما يستطيع من تغيير في سلوكه، وتفكيره، وقيمه الجمالية، وأن يسمو على عذاباته، عندها، وبلا جدال، تكون الحركة الصهيونية منافية ومناقضة للمصالح العليا لجنسكم اليهودي”.

ويضيف الكاتب أن لكل شعب مناقبه ومثالبه وعيوبه الخاصة به وعليه فلديه وسيلته هو لبلوغ الذروة ويتمتع اليهود بمثل هذه الخاصية، عدم الراحة وعدم التوافق مع حقيقة الزمن والكفاح للهروب واعتبار كل تمثال وكأنه سجّان وكل فكرة بمثابة سجن خانق. وعبر هذه الخاصية الحادّة لديهم “صانوا الجنس البشري من المساعي المدبرة للقناعة وراحة البال”. ومن خلال هذا الوضع الذي لا خلاص منه تمكنت الروح اليهودية تحطيم التوازن والدفع قدما نحو التكامل والارتقاء وإثارة الفخر في الحياة؛ وهذه الروح لا تعرف التوقف والقناعة، إنها تنتقل من النبات إلى الحيوان ومنه إلى الإنسان فتعذبه وكأنها تود تفجيره للوصول إلى أبعد من ذلك. ثم يستطرد هذا الروائي المفكر قائلا إن اليهود اكتسبوا فعل الثورة نتيجة تاريخهم الدياسبوري، اضطهاد وظلم وقلق ورعب وقتل ونفي وتشتت. كل ذلك باق راسخا في النفسية اليهودية والشتات هو وطن اليهود لا محالة فلا جدوى من الهرب من هذا القدر المحتوم والبحث عن أمل وسعادة في فلسطين. ويختم كازانتزاكيس كتيبه، تقريره عن رحلته إلى فلسطين، بهذه الكلمات ذات المعنى الغريب العجيب بالنسبة للكثيرين اليوم:

“آمل - لأنني أحبّ اليهود - أن يتمكن العرب، عاجلا أم آجلا من طردكم من هنا، وأن يعيدوا تشتيتكم في هذا العالم”، كتب هذا عام ١٩٢٦.

عن الحوار المتمدن