واسيني الأعرج يكتب سوناتا أشباح القدس

واسيني الأعرج يكتب سوناتا أشباح القدس

مصطفى شلش

القدسُ مدينةٌ تكفي الجميع، قلبها واسعٌ دينها كبير، إيمانُها متعدّد ،وأشجارها تغطي كلّ العرايا، ومراياها ليست عمياء، وحيطانها ليست للبيع تسرد الروايةُ قصة الفقد والشوق إلى الوطن عبر رحلةِ الطفلة ميّ التي تغادر القدس إلى بيروت، ومن ثمّ إلى أمريكا، وهي طفلةٌ ذات الثماني سنوات، لتكبر وتصبح فنانةً تشكيليّةً وأمّاً لطفلٍ اسمه "يوبا". تمرّ الأيام وتموت الأم "ميّ"، تاركةً وصيةً بحرق جثتها وذرِّ رفاتها في حارات القدس.

وفي فصلٍ بعنوان "كبرياء اللّون وهشاشة الفراشة"، يُرفض السماح لميّ أن تُدفن في القدس، لتقرّر وهبَ جسدها للنار، وهو نوعٌ من رمزيّة الاحتجاج على التعسّف ضدّ أصحاب الأرض الأصليّين، فتحيي ميّ في ذاكرتها خالَها المجنون بالحياة، وأمَّها ذات الصوت المسروق، وتعيدُ أهلَ القدس من القبور: الجدّ والحبيب والأخوة، في دلالةٍ على البقاء، وبقاء الأرواح أيضاً في موطنها الأصليّ، لتُنثَر الرفات والروح هناك في حواري القدس وفوق نهر الأردن، وتُدفن العظام في أمريكا.

يوبا -الابن- لم يزُر القدس أبداً إلّا في مخيّلته، زارَها مرتين في الخيال، والثالثة ستكون لنثر رفات أمّه في حواري مدينتها القدس. في الفصل الأول، يسرد "يوبا" تخيّلاته للقدس، إذ ألقى به جدُّه إلى سوق المغاربة خلفَ حائط البراق، إلا أنّ جده "بوميدين لمغيث الأندلسي" خَلَد إلى النوم ولم يستيقظ أبداً، وقال الناس إنّ الرجل غادر من شدّة حزنِه على القدس، متّجهاً نحو الأندلس ليموت ميتته الأخيرة هناك. يوظّف واسيني الموشحات الأندلسية في هذه الرواية، وهو ما يُمكن تفسيره ربطاً بين احتلال القدس وضياع الأندلس، كإحدى علامات الضعف والوهن في التاريخ العربيّ والإسلاميّ.

يُكمل "يوبا" تخيّلاتِه عن زيارته الثانية، لكن هذه المرة يزيدُ "واسيني" من وصفهِ لأحياء القدس التي تعبرها روح أمه في جوٍّ معبّقٍ بالبارود. تدور ميّ من حارةٍ إلى حارة، و من زاويةٍ إلى أخرى، مروراً بالحرم القدسيّ وقبة الصخرة والمسجد الأقصى، ومن باب الرحمة إلى حارة الشرفة، ومن ثمّ إلى حارة اليهود في الجزء الجنوبيّ الشرقيّ من المدينة، مروراً بحارة المغاربة وباب المغاربة، إلى حارة الأرمن وباب النبي داوود وجبل الزيتون، ثمّ الجزء الشماليّ من المدينة، حيثُ حارة النصارى. تمرّ بجوار كنيسة القيامة والباب الجديد حتّى حارة السعديّة وحارة حطّة. كلّ هذا وهي تردّدُ "حذاري أن تكون مثل جرسٍ معلّقٍ لكنيسةٍ مهملةٍ كلّما مسّتهُ يدٌّ تداعى ألماً، ثمّ سكن إلى ألمِه الأول"، ثمّ تصرخ مي: "وجدتُها .. وجدتُها.. ألوان القدس يا يوبا". يستيقظ يوبا من حلمه، ويفهم لماذا كان اللونُ همَّ أمه طيلة حياتها، ولهذا طالما قالت إنّ لون القدس "نتّف أعماقها".

يستخدمُ واسيني الأعرج الوصفَ الدقيقَ لمدينة القدس، فروح ميّ تعرفُها وتعرّفُ يوبا عليها، حتّى وإن غادرتها مذ كانت طفلةً، في دلالةٍ على ارتباط الروح بهذه الأرض المقدسية. كان واسيني مُدركاً - منذ اللحظة الأولى في الرواية- أنّ "كلّ من يغادرُ أرضاً يحتلَّها بالضرورة صدىً آخرُ، مخالفٌ له في كل شيء، حتّى في تنفّسه و أحلامه".

لجأ الأعرج في روايته هذه إلى لغةٍ شعريّةٍ للتعبير عن حالة الحزنِ والفقد التي تنتاب يوبا لأمّه المتوفية، وجمَع هذا مع حزنِ ميّ لفقدانها الوطن. وعلى مدار الرواية، سندركُ كيف سيلعب اللونُ دور الرفيق في حياة ميّ، والذي يرمز به واسيني للسعادة داخل الوطن والمفقودة خارجه، إذ يؤكدُّ على لسان بطلته "الناس لا يدركون أنّنا لا نعود إلى أرضنا الأولى لنموت فيها فقط، ولكن لنعيش جزءاً جميلاً من العمر".

ولا تغيب الأكلات الشعبيّة الفلسطينيّة عن صفحات الرواية، حتّى عندما تواجدت ميّ في نيويورك، فتتذكرُ صانع الفلافل "عم أبو نجيب"، وهو يمدح فلافله "يا الله يا فلافل! طعمُ الغنيّ والفقير، الصغير والكبير". حتى الفعل الديني لدى ميّ ارتبط تماماً بالقدس؛ فهي تقرأ الإصحاح الرابع والعشرين لأنّه يذكّرها بجبل الزيتون، فتقول: "لم أكن أرى نيويورك، كنتُ منغمسةً في أحياء القدس القديمة".

رحَل جسدُ ميّ وظلّت روحها هناك، في القدس، حيث تركتها. حصل بعدها ابنها على كتاباتِها، وعمَد واسيني للإشارة إلى أنّ رائحة الزيتون كانت تفوحُ من حاجياتها، فعلى الرّغم من أنّها لم تعد يوماً إلى القدس، إلا أنّ رائحته لم تفارقها. تظهر معركةُ واسيني الأدبيّة من أجل فرض الواقع الفلسطينيّ على القدس، حتّى ولو يسكنها رفاتُ الموتى، فيما سيقوم به "يوبا"، فقد وضع رفاتَ أمّه في جرارٍ، وزّعها على مقابر الأسرة، وأعاد كتابة الأسماء على شواهد القبور حتّى لا تمحيها الرياح.

كما أكثَر الأعرج من وصف الأماكن وأعطاها صِبغةً اجتماعيّةً فلسطينيّةً لأحداثٍ حول الحبّ والفشل والانكسار والفجيعة، وحتّى الدين. حيث لجأ إلى الرمزيّة الصوفيّة دلالةً على الحبّ الشديد، وأعطاها للجدّ الذي مات منذ زمنٍ بعيدٍ، دلالةً على غياب هذه السّماحة وهذا الحبّ للقدس عن المشهد الحالي.

ولم يغفل الأعرج أن يسلّط الضوء على ممارسات الاحتلال الصهيوني من خلال تجربة "يوبا"، وكيف يفرّق بين العربيّ وحامل الجنسيّة الأخرى في محيط القدس، وتحديداً عند حائط البراق، حيث دارَ حديثٌ قصيرٌ جداً بينه وبين جنديٍّ صهيونيٍّ كان يحمي مُصلّين صهاينةً، أظهر فيه الأخيرُ احتراماً كبيراً ليوبا لأنّه أمريكيٌّ وليس عربيّاً. ووُفّق الكاتب، إلى حدٍ ما، في توظيف الدلالات المقاوِمة وترسيخ أثر الفعل المقاوم في سياق الحديث عن المدينة المقدّسة. كما تلفتُ الرواية إلى حسرة بيع وتسريب الأراضي في القدس، وكيف اتّخذ جدّ ميّ قراراً عائلياً بتجريم بيع الأراضي إلى اليهود.

ثمّة خطٌّ آخرُ في الرواية، وهو خطٌّ تعلو فيه تشاؤميةُ الكاتب للوضع الحالي في فلسطين، تمثّلت الكلمات على لسان أبطاله، أنّهم لن يعودوا وأنّ كل ما بقي من ذكريات القدس ومفاتيح الديار القديمة لن يصبح إلّا ذكرى ألمٍ وفجيعةٍ. ولكن في المقابل، جاء على لسان ميّ، في كثيرٍ من المواضع، الندم لمغادرة القدس لا من أجل تحريرها، بلّ للموت فيها. كما جاءت في نصائحها لابنها طالبةً منه أن ينسى الماضي، وألّا يخون الحاضر، فتقوم بزيارة الأندلس وترفض زيارة القدس، لأنّ كل من تبقى فيها هم الأموات، وتتمنى لو ترحل ولو بروحها لأخْذِ حفنةٍ من تراب القدس وتتوسّد بها كالدراويش. يفتح هذا التناقض باباً لتساؤلات اليأس مقابل الأمل، والصراع بين المنفى والوطن، فضلاً عن خيار المقاومة والصمود في الأرض مقابل الاستسلام للمحتل.

عن صحيفة العرب