جبرا إبراهيم جبرا تحدث عن القدس .. مدينة أشبه بثريات متلاصقة

جبرا إبراهيم جبرا تحدث عن القدس .. مدينة أشبه بثريات متلاصقة

ان أول ما يجب أن يقوله المرء عن القدس هو انها مدينة عربية، عريقة في عروبتها، رغم ان الصهاينة احتلوا نصفها الجديد. فنصفها الجديد المحتل العربي عروبة نصفها القديم، وعروبة بقية فلسطين المحتلة.

وعندما يتحدث أحد أبناء القدس عن مدينته يستحيل عليه أن يقصر الكلام على المدينة المسورة وما نشأ حولها من بناء وتوسع في فترة ما بعد النكبة. فالقدس بأرجائها كلها وحدة عضوية، من اللامنطق أن تشطر هذا الشطر المجرم.

وما شطرها على النحو الحالي إلا صورة مصغرة للخرق العقلي الذي اجتزأ قسماً من فلسطين لليهود. وبالرغم من مرور الأعوام على هذا الظلم المجسد فإن المقدسي لن يستطيع أن يتصور مدينته دون النصف المحتل، بأحيائه العربية ومنازله العربية ولونه العربي.

لقد سكنت أول الأمر في منخفض خارج السور تحت مشارف حي النبي داوود، كان يعرف باسم «جورة العناب» وهو من الأحياء الأولى التي أخذت تنشأ خارج القدس في أواخر القرن التاسع عشر وبدايات القرن العشرين .

ولقد شهدت فيها تحولاً من سوق للحيوانات، تقام كل يوم جمعة، إلى منطقة صناعية نشأت فيها دكاكين الحدادين والنجارين والسباكين. وعملت أيام الصغر في أحد دكاكينها صيفين متواليين ابان العطلة المدرسية، لقاء قرشين ونصف القرش في اليوم. كان ذلك أوائل الثلاثينات.

كان بيتنا غرفة واحدة من بنيان كبير طابقه الأرضي منخفض عن الطريق العام، ويتألف من حوش مربع مكشوف ينزل إليه بدرج، على جوانبه غرف تأكل فيها عائلة بأكملها. من باب غرفتنا كنت أرى مئذنة النبي داوود تطل علينا من شاهق.

ولما لم يكن لهذه الغرفة إلا نافذة صغيرة قرب الباب كنا نراكم فيها كتبنا وأغراضنا المدرسية، فقد أذن لنا صاحب الدار أن نفتح ثغرة مربعة صغيرة في أعلى الجدار المقابل للباب تساعد في التهوية. فجاءت النافذة بمحاذاة الأرض من الطريق العام تماماً، ولم يكن مزفتاً يومئذٍ، فجعلنا عليها غشاءً معدنياً وستارة صغيرة.

وكان من عادتي ان استيقظ قبل الفجر على أصوات الفلاحات القادمات من القرى المجاورة حاملات سلال الخضر إلى السوق، وقد جلسن قرب نافذتنا العليا هذه يسترحن من السير الشاق قبل بلوغهن «سوق الخضرة» في باب الخليل، فيصدر عنهن وعن دوابهن لغط كثير.

إضراب وتوسع

من هناك أيام التلمذة، كنت أصعد كل يوم «الجورة» إلى باب الخليل وهو يموج بالسيارات والباصات بـ «صحارات» الفواكه والخضار، بالبائعين والمشترين والحمالين. ثم أذهب إلى المدرسة الرشيدية، إما عن طريق باب الخليل والبلدة القديمة، أو عن طريق شارع يافا، إذ أصعد إلى «البوسطة القديمة» .

ماراً بمكتبة «بور سعيد، ثم انزل «عقبة المنزل» ماراً بالباب الجديد والمستشفى الفرنسي ودير نوتردام الملاصق له فالشرارة إلى باب العمود. أما اليوم (يقصد العام 1965 حين كتب هذا النص وكانت إسرائيل لم تستكمل بعد احتلال كل القدس)، فهذه كلها جزء من منطقة الحرم الملأى بالأنقاض والأسلاك الشائكة.

ومن باب العمود حين ينظر المرء غرباً، يرى الدير الكبير عبر الأسلاك وقد تحول إلى خرائب رهيبة في معركة عنيفة وقعت بين العرب واليهود عام 1948، حين أراد اليهود أن يجعلوا منه منطلقاً لاقتحام الباب الجديد والمدينة القديمة، فجابههم المناضلون والجيش العربي مجابهة ضارية ردتهم على أعقابهم.

لقد تحولنا فيما بعد إلى حي آخر يقع بين شارع مآذن الله والشماعة. وكانت القدس منذ قبل الخراب الشهير عام 1936، في توسع شديد سريع، ثم استؤنف هذا التوسع بعد الخراب.

وفي هذه الأثناء كان قد تم بناء الكلية العربية على جبل المكبر جنوبي القدس، وكان عميدها الأستاذ أحمد سامي الخالدي. وغدت المسيرة اليومية بالنسبة إلي تتجه جنوباً بعد أن يركب المرء باص البقعة الفوقا، ثم يسير وراء معسكر للجيش البريطاني إلى ان يصل قمة جبل المكبر حيث قامت الكلية وسط فراغات فسيحة، بعضها ملاعب تحفها المئات من مشاتل الصنوبر، وقد نمت الفسائل إلى شجيرات تحت سمعنا وبصرنا ما بين 1935 و1938.

هكذا صارت خرابا

قضيت سنتي الأخيرة داخلياً في الكلية العربية. ولن أنسى منظر القدس عبر وادي الربابة وهي في النهار مغمورة في غمام من البنفسج وهي في الليل تتقد وتتلألأ.

كانت الكلية العربية يومئذٍ، كعهدها دائماً إلى أن أتت عليها النكبة، تجمع حوالي مئة وعشرين طالباً يتم انتقاؤهم من بين المبرزين في مدارس فلسطين كلها. وكان معظمهم يمتازون، فضلاً عن الذكاء، بالقدرة الهائلة على الدرس الشاق، حتى كان من مهام المسؤولين كبح رغبة الطلاب في الدرس طوال الليل «سراً» بعد ساعة الإيواء إلى الفراش!

فلا عجب أن تخرج الكلية عدداً كبيراً من الشباب أضحى الكثير منهم اليوم مشاهير العرب. كنا في الليل من مكاننا التنسكي هذا، نطيل النظر إلى القدس، من ذلك الجبل نفسه الذي وقف عليه، يوماً قبلنا بألف وثلاثمئة سنة، عمر بن الخطاب ليرى بيت المقدس لأول مرة «ثريات متلاصقة، استمراراً لنجوم السماء».

هكذا كنا نصف المدينة المشعشعة في الظلام عبر الوادي الذي كان يدعى في الأزمنة الغابرة بوادي جهنم، ونحن نتحدث دون انقطاع في كل ما يهم الشباب ولاسيما الأدب والسياسة، فضلاً عن دروسنا العاتية التي كان بعضنا يحفظها غيباً.

وذلك بأن يمشي ويمشي حول الملاعب الفسيحة وهو «يصم» الساحل نهاية. بعد ذلك ببضع سنوات تحولنا مرة أخرى، وكان تحولنا هذه المرة غرباً إلى ضاحية القطمون على تلة تشرف على منحدرات الصخر من ناحية، تبلغ وادي فيه الطريق إلى قرية المالحة.

ومنحدرات من ناحية أخرى مليئة بالمنازل الحجرية الجميلة التي امتازت بها القدس. لقد بلغت المدينة في أوائل العام 1947 أقصى توسعها ورونقها، غير أن الإرهابيين الصهاينة كانوا قبل ذلك بثلاث سنوات قد شرعوا في تدمير القدس الجديدة وفق خطة وحشية:

تبدأ أولاً بنسف المقرات الحكومية، الواحد تلو الآخر(وكان من أشهر الأماكن التي نسفوها على من فيها حينا والسكرتارية العامة للحكومة في فندق الملك داود). وبعد إعلان التقسيم في تشرين الثاني (نوفمبر) 1947، أخذوا ينسفون منازل العرب ليلاً.ولا سيما في حي القطمون الذي كان مجاوراً لحي رحافيا اليهودي، إرهاباً للسكان ودفعهم إلى الهرب. ثم جعل العرب يردون على التحدي، وما هي إلا بضعة أشهر حتى كانت القدس الجديدة متاهة مخيفة من أسلاك شائكة وبيوت مهجورة، وخرائب متناثرة التخاطب بدمدمة الرصاص ليلاً نهاراً. (. . . )

عن كتاب " البئر الاولى "