جليل كمال الدين.. شخصية لا تنسى

جليل كمال الدين.. شخصية لا تنسى

عبدالله حبه

ثمة شخصيات تبقى في الذاكرة لظرفها وحضورها الدائم في اي مجتمع. وقد عرفت الكاتب والناقد الراحل جليل كمال الدين منذ اللقاء الاول بيننا في مقهى الآداب وكان بصحبة الشاعر رشدي العامل والصحفي نزار عباس ..

وبدا دوما مشرق الوجه ومتهلل الأسارير حتى في لحظات الإحباط التي كانت تصيبه لسذاجته الطفولية لدى التعامل مع الآخرين . لقد كان رحمه الله ذا موهبة فذة وفكرا لماحا وميالا الى النكتة. وكأنه احدى الشخصيات الاسطورية مثل ابوزيد السروجي في مقامات الحريري، او كإحدى الشخصيات التي أحببتها في ايام الشباب مثل الشاعر حسين مردان والكاتب القصصي السوري سعيد حورانية.

وعندما جاء الى بغداد من مسقط رأسه في الحلة كنا نتعامل معه باحترام خاص لأنه سليل أسرة كمال الدين المعروفة في النجف التي أنجبت العديد من الشخصيات التي لها باع في مجال الثقافة. وقد ابدى خلال دراسته في دار المعلمين العالية نشاطا أدبيا كبيرا حيث كانت مقالاته تنشر في كل مكان وفي شتى المواضيع. وعرف منذ ذلك الحين حبه للمطالعة الكثيرة. فكان يلتهم كتابا او كتابين في اليوم أحيانا . وبهذا أصبحت جعبته غنية بالمعارف الثقافية.

وعندما جاء الى موسكو في مطلع الستينات للالتحاق بجامعتها واصل نشاطه الأدبي ونشر ايامذاك كتابه الاول حول الشعر العربي المعاصر الذي أثار شتى ردود الافعال لدى المهتمين بالشعر. وكان جليل يكتب في كافة الصحف الادبية ابتداء من الأديب والآداب الى الطليعة المصرية والثقافة الجديدة العراقية. كما التقى بالأدباء العرب الموجودين في العاصمة الروسية ومنهم عبدالوهاب البياتي وغائب طعمة فرمان ونجيب سرور وغيرهم. ووجد طريقه الى اتحاد الأدباء السوفييت حيث تعرف على الكثير من الشخصيات الادبية مثل الشاعر سوفرونوف والشاعر يفجيني يفتوشينكو وقام بترجمة اعمالهما والكتابة عنهما ، والكاتب جنكيز ايتماتوف الذي ترجم ايضا مجموعة من رواياته وقصصه ومنها "جميلة" و" وداعا غولساري" والتي نشرتها دار النشر " التقدم" بموسكو.

اما في الأوساط الطلابية العراقية والعربية فكان له حضور دائم وتحولت غرفته في مساكن الطلبة الى ما يشبه النادي الأدبي حيث كان يرتادها جميع دارسي الأدب آنذاك . وكان معروفا بحبه لمعرفة اي شيء جديد في عالم الادب والثقافة. ولهذا كان لقلة الكتب العربية المتوفرة في موسكو يستنسخ كتبا بأكملها . وحدث مرة ان وجد لدي كتابا حول علم الجمال . فرجاني ان اعطيه إياه ، وعندما رفضت متعللا بأنني نفسي استعرت الكتاب من صديق لي ، وكنت اخشى ان يضيع كغيره من الكتب التي اخذها البعض مني ثم لم يعيدوها لي ،قال اعطني أياه ولو لليلة واحدة. فأخذ الكتاب وأعاده الي في اليوم التالي. ولعجبي وجدت انه استنسخ الكتاب المؤلف من حوالي 300 صفحة في ليلة واحدة . وقد أراني مجموعة من الدفاتر التي تضم محتوياتها الكتب التي استنسخها . اذ لم تكن متوفرة في تلك الايام وسائل الطبع اليدوية. كما انخرط في المجتمع الروسي وارتبط بأواصر صداقة مع الكثيرين وبالأخص من الجنس اللطيف ، ومغامراته النسائية كثيرة .

وكان رحمه الله لا يحب التحدث كثيرا عن الماضي إلا فيما ندر . وقد عرفت لاحقا انه كان سجينا لمدة خمسة اعوام قبل مجيئه الى بغداد والتحاقه بدار المعلمين العالية. فقد ألقي القبض عليه لدى مشاركته في مظاهرة ضد الحكومة ووجدت في حوزته كتب ممنوعة . لكنه لم يتحدث ابدا عن ظروف السجن وعلاقاته بالسجانين والسجناء. كما دخل السجن مرة أخرى في ايام حكم البعث حين وشى به احدهم ووجدت لديه مطبوعات ربما كانت تتعلق بالأكراد أودعها صديق له لديه. وكان احيانا ساذجا لدرجة كبيرة ويشفق على الاخرين ويقع نفسه لهذا السبب بورطة تلو الاخرى. وبقي عندئذ في سجن بعقوبة فترة ثلاث سنوات ونصف السنة حتى افرج عنه والتقاه صدام حسين الذي كان في منصب " السيد النائب" آنذاك وصافحه بعد ان كتب اليه رسالة يرجو فيها الإفراج عنه . وكان يتباهى بعد ذلك أمام البعثيين بان اليد التي تصافحهم كانت قد صافحت الدكتاتور. لكنه بقي دائما وفيا للحركة اليسارية في العراق والتي شب في احضانها، ويعرب عن أسفه لاضطراره لمسايرة السلطة البعثية من اجل إنقاذ جلده من الجلادين.

وخلال عمله في كلية الآداب بجامعة بغداد كأستاذ للأدب المقارن نشر عدة كتب منها مكسيم غوركي(1977) ودراسة مقارنة في الأمثال الروسية والعربية (1978) وتاريخ الأدب العربي في العصر الحديث (1984) وغيرها ، كما نشر الكثير من المقالات التي لم تنشر فيما بعد في كتاب. ويعترف جميع طلابه في الكلية بأن محاضراته كانت ممتعة ومفيدة جدا وتخلو من الجمود. وقد تخرج الكثير من طلابه الذين يذكرون فضله عليهم في فتح أبواب المعرفة أمامهم.