ذكريات مع جليل كمال الدين

ذكريات مع جليل كمال الدين

د . عدنان الظاهر

لم أتعرف على المرحوم جليل في مدينة الحلة حيث درس في مدارسها وأكمل الصف الخامس الأدبي في ثانوية الحلة للبنين عام 1948 حين أكملت أنا الصف السادس الإبتدائي في هذا العام.

نعم، فُصل وسُجن على خلفية أحداث وثبة كانون 1948 حين لم يكنْ بعدُ طالباً في دار المعلمين العالية في بغداد كما أشار خطأً الأخ ضياء. كنا معاً ندرس في هذه الكلية وكانت علاقتنا جدَّ وطيدة خلال الدراسة فيها [1955/ 1959] هو في قسم اللغة الإنكليزية وأنا في قسم الكيمياء. كان معروفاً وقتذاك عنه أنه رجل اجتماعي يحب الإنتظام في حلقات من محبي الأدب يكون هو في المركز ويكون اللولب الحَرِك والمُحرّك معاً ... وتحلّقت بالفعل حوله في نادي الطلبة في دار المعلمين العالية مجموعة من الزملاء فيهم الفنان نور الدين فارس وزائرون لنا أذكر منهم الفنان إسماعيل فتاح الترك والقاص الصحافي نزار عبّاس وسواهم لا أتذكر أسماءهم اليوم. كان يومذاك ينشر مقالات نقدية أدبية في مجلات أدبية واسعة الإنتشار منها مجلة الأداب لسهيل أدريس ومجلة فنية عراقية لا أتذكر عنوانها وكان فخوراً بما ينشر ويعمم ما ينشر على أعضاء تلكم الحلقات والتجمعات الصغيرة. ما كان يتكلم في السياسة ولكن مارسها بعد ثورة الرابع عشر من تموز 1958 بشكل فعاليات مؤيّدة للثورة ومناهضة للتيارات القومية والبعثية ولديَّ بعض التصورات عن تلك الفعاليات لا تستحق الذِكْر. أكملنا دراستينا في دار المعلمين العالية وقد غدا اسمها بعد ثورة تموز 1958 " كلية التربية " وجرى تنسيبنا بأمر وزاري مدرسين على التعليم الثانوي في بعض مدارس مدينة الحلة. إلتحقَ في عام 1960 ببعض الزمالات التي كان الإتحاد السوفييتي يمنحها للعراق وغادر إلى موسكو ليدرس الأدب الروسي في جامعة موسكو / لومونوسوف.

في جامعة موسكو:

غادرتُ العراق فجر السادس من شهر آب عام 1962 متجهاً طيراناً نحو فيينا ومنها بعد حوالي ثلاثة أسابيع إلى موسكو. كان طبيعياً أنْ أسأل عن جليل كمال الدين فالتقينا ورتب في شقته في القسم الداخلي في جامعة موسكو لي والصديق عبد اللطيف السامرائي عشاءً عراقياً نموذجياً : مرقة بامياء مجففة ورز مع زجاجة فودكا جرّبتها هناك لأول مرة في حياتي ... نعم، كنّا في العراق نسمع بها لكننا ما رأيناها ولم نجرّبها. بعد أنْ فعلت الفودكا فعلها في رأس الصديق السامرائي تذكر أهله فانحرط في نوبة بكاء حار كثير الجديّة وكانت هذه ظاهرة مألوفة بالنسبة للطلبة الذين يغادرون الوطن حديثاً لم يسلمْ منها ولم يشذْ كاتبُ هذه السطور. تعثّرت دراسة جليل في جامعة موسكو لأسباب أعرف بعضها وأجهل البعض الآخر وأُوقفت مخصصاته الشهرية كطالب دكتوراه فضاقت به السُبل. قيل في حينه أنَّ زوجه الروسية (أم علي) كانت تساعده بين حين وآخر. ثم ساءت علاقاته العامة مع بعض زملائه العراقيين وأُتهم بالإنشقاق ومحاربة رابطة الطلبة العراقيين في الإتحاد السوفييتي وبنشر دعاوى مُغرضة ضد هذا الإتحاد وما كان الرجل محسوباً على تنظيمات الحزب الشيوعي. كان المرحوم كريم الراوي كثير الحساسية من جليل وكان جليل كثير الأدب خفيض الصوت يمتص الإستفزازات وبعض التجريحات بصبر وعصب بارد لكنه كان يعرف كيف يرد.

حُب جليل للكتب:

رغم ضيق ذات اليد وتوقف مخصصاته الشهرية ظلَّ حريصاً على اقتناء الكتب الأدبية بثلاث لغات هي العربية والإنكليزية والروسية وما كان يسمح لأحد بمسّها وما كان يعيرها لأحد سوى حادثة واحدة معروفة تخاصم فيها علانية مع أحد زملائه وجيران سكنه في القسم الداخلي إذْ استعار هذا منه كتاباً ثم أنكره عليه وكانت ملاسنة وأصوات عالية في أروقة القسم الداخلي ..

إستثناء واحد: ما كان جليل يبخل عليَّ بأي كتاب أطلب استعارته منه. وبفضله وفضل مجموعة كتبه المغطاة دوماً بقطعة قماش بيضاء كبيرة تعرّفتُ على الشاعر توماس إليوت وقصيدته الشهيرة " الأرض الخراب ". كانت مكتبته مفتوحة أمامي في أي وقت أشاء. كانت ثقته بي كبيرة لأننا أصدقاء قدامى ومن مدينة واحدة وتخرجنا في كلية واحدة في بغداد ومارسنا التعليم الثانوي معاً ولبعض الوقت في مدارس الحلة ثم ما كنا نفترق أثناء دراستنا في دار المعلمين العالية.

عن موقع الحوار المتمدن