ناظم باشا ام خليل باشا.. من هو المؤسس الحقيقي لشارع الرشيد ؟

ناظم باشا ام خليل باشا.. من هو المؤسس الحقيقي لشارع الرشيد ؟

رفعة عبد الرزاق محمد

تؤكد الوثائق التي كتبها القناصل الاجانب عن احوال بغداد في العهد العثماني الاخير ان الكثير مما استقر في الذهن يحتاج الى مراجعة وتحقيق . ومن ذالك ما اطلع عليه باحث قدير هو الدكتور خالد السعدون في وثائق القنصلية الانكليزية في بغداد ، وهي وثائق على جانب كبير من الاهمية لما تضمنته من تفاصيل دقيقة عن الحياة العامة في بغداد انذاك .

كشف الدكتور السعدون في كتابه ( شذرات بغدادية ، دار الحكمة 2015 ) ان مشروع شارع الرشيد كان من

مشاريع الوالي ناظم باشا ، وهو وال عرف باصلاحاته الكثيرة في العراق حتى سمي بمدحت باشا الثاني . وصل ناظم باشا الى بغداد وتسلم منصبه في 5 مايس 1910 ، وبعد ايام التقى القنصل البريطاني في بغداد ( الكابتن لوريمر ) فابلغه عن عزمه على شق شارع ببغداد عرضه عشرون مترا يمتد من الباب الشمالي (الباب المعظم) الى الباب الجنوبي ( الباب الشرقي ) بخط مستقيم بطول نحو ميلين . واعتقد القنصل ان ذلك سيصطدم بصعوبات عديدة ، وربما خصوم الوالي هم الذين ورطوه بهذا المشروع ( تقرير ملخص احداث العراق التركي خلال شهري نيسان ومايس 1910م ) .وهذا يتفق تماما مع ماذكرته مجلة ( الزنبقة) البغدادية الذي سنذكره بعد قليل .

كانت اصعب العقبات التي واجهت ناظم باشا واهمها هي المبالغ الباهضة التي ستصرف على المشروع بسبب التعويضات عن هدم الاملاك عند البدء بفتح الشارع . الف ناظم باشا لجنة لتقدير قيمة التعويضات لنحو مائتي منزل ستتملكه الولاية لغرض هدمها كليا او جزئيا .ففوجيء ناظم باشا بالمبلغ الكبير المقدر من قبل اللجنة على الرغم من طلبه اعادة اللجنة لتقييم التعويضات ، حتى قيل ان ذلك لصرفه عن اتمام المشروع او الغائه كما يقول القنصل الانكليزي . غير ان ناظم باشا كان مصرا على تنفيذ المشروع ، بل طلب جعل عرض الشارع 22مترا، كما نشر بين الاهالي نص قانون الاستملاك الحكومي لغرض المنفعة العامة .( ظهر اللجنة بعد اعادة تشكيلها ان عدد المنازل التي يطالها الهدم يبلغ 506 منازل تبلغ قيمة تعويضها اكثر من 98 الف ليرة عثمانية ) .

ويذكر القنصل البريطاني في تقريره ايضا ان خطة شق الشارع تتضمن ايضا شق شارعين كبيرين او ثلاثة تصل الشارع الجديد بضفة نهر دجلة وتتعامد معه . وقد بدد هذا الامر الخلط بين مشروع الشارع الجديد ومشروع آخر هو تطوير شارع ( النهر او المستنصر) الذي كان اوسع دروب بغداد منذ العهد العباسي ، وهو اشبه بزقاق عريض . كما ان المشروع كان مرتبطا بمشروع تطويري كبير آخر ، هو مد خط ترام كهربائي يمر بالشارع الجديد بعد اكماله ويمتد من الاعظمية الى ضاحية الكرادة ( قرارة) ، وقد منح الامتياز الة تاجر بغدادي كبير هو محمود جلبي الشابندر . وقد وضع الوالي حجر الاساس لمشروع الترام في احتفال كبير اقيم في منطقة الباب المعظم في 26 حزيران 1910 . وكان من بنود الامتياز انجاز المشروع كله خلال سنتين بشرط اكمال فتح الشارع الجديد خلال ستة اشهر ..

اتسمت التعويضات المالية التي قررتها السلطات عن هدم المنازل بالضآلة وبالغبن للاهالي ، فذكرت التقارير البريطانية ان اللجنة خصصت لمحمد فاضل باشا الداغستاني مبلغ سبعمئة ليرة عثمانية عن منزله الذي سيهدم كليا في حين ان كلفة بنائه كانت الفي ليرة .ونقل التقرير ايضا ان معماريا ومضاربا فرنسيا يدعى المسيو فيوله عرض على الولاية مبلغ ثلاثين الف ليرة عثمانية لقاء فضلات الاراضي الباقية بعد الهدم التي ستنتقل لملكية الولاية . ويشير التقرير الى ان ناظم باشا شرع بالهدم فعلا دون مراعاة القانون ، حتى ان انقاض المنازل اخذت تسد بعض دروب المدينة ويتعذر اجتيازها .وان ناظم باشا اشرف بنفسه على التأشير والهدم بمعاونة المقدم جواد بك المهندس العسكري الذي انتدب لمنصب مدير الشوؤن البلدية وكان لا يتوانى عن الهدم الكيفي.

في الرابع عشر من اب 1910 وضعت البلدية علامات مقابل جدران القنصلية ( المقيمية ) البريطانية في بغداد في محلة السنك للتأشير على اماكن الهدم اللاحق ، ويذكر التقرير البريطاني ان الهدم سيقسم القنصلية الى قسمين متساويين تقريبا ، وان ناظم باشا ربما يتهور ويشرع بالهدم بعد عيد الفطر في السادس من تشرين الاول 1910 . وقد شهدت تلك الايام مراسلات طويلة بين القنصل في بغداد والسفيرالبريطاني في الاستانة عن تهديدات ناظم باشا بالهدم والوسائل الكفيلة بايقافها او حرف الشارع عن مساره عند المنطقة التي تضم القنصلية .

اصبح مشروع الشارع الجديد يواجه تحديا جديدا وخطيرا فضلا عن التحدي المالي وقضية التعويضات ، وهو الممانعة البريطانية لخط مسار الشارع الذي سيمر بارض المقيمية الانكليزية ويقسمها قسمين . وعلى المستوى الشخصي فقد تعرض ناظم باشا الى دعاية عدائية من قبل خصمه العنيد جمعية الاتحاد والترقي استهدفت اسلوب ادارته ولاية بغداد وسلوكه الشخصي ( قضية سارة خاتون ) ، حتى ان السفير البريطاني توقع الا تطول ولايته . استمرت ولاية ناظم باشا في بغداد نحو عشرة اشهر وقد عزل في اذار 1911 ، وعين جمال بك ( جمال باشا السفاح فيما بعد ) خلفا له ، وقد اعلن هذامواصلة العمل بمشاريع سلفه ، ولكن معرفته بما يعترض مشروع الشارع الجديد من عقبات ، جعلته غير متحمس للمشروع ، سوى محاولته تبني فكرة التوسع في الاستملاكات على جانبي الشارع لتباع بعد افتتاحه بسعر كبير ، وبذلك تغطي الارباح قيمة التعويضات دون ان تتكبد الخزينة الا الشيء القليل من النفقات . ولم يكتب للفكرة التحقيق حتى مغادرة جمال بك بغداد في اب 1912 .

ولم يبد الولاة اللاحقون بعد ناظم باشا اي همة تجاه المشروع ( وهم : يوسف اكاه باشا ، جمال بك ، محمد زكي باشا ، جلال بك ، جاويد باشا ، سليمان نظيف باشا ، نور الدين بك ) ، ثم اندلعت الحرب العالمية الاولى واصبح العراق احدى جبهات الحرب ، ولما تولى خليل باشا ولاية بغداد وقيادة الجيش العثماني ، انتهز الفرصة وأمر باستكمال شق الشارع ثم افتتاحه في صيف 1916 ، فسمي بـ (خليل باشا جاده سي ) ، وكانت تلك تسميته الثالثة ، اذ سماه المتزلفون لناظم باشا باسم ( ناظم باشا جاده سي ) ، غير ان ناظم باشا رفض ذلك وامر ان يسمى الشارع باسم ( مدحت باشا جاده سي ) ، ولكنه اشتهر بين الناس منذ عهد ناظم باشا باسم ( الجادة العمومية ) . ويذكر المؤرخ العراقي يعقوب سركيس ان قطعة وضعت على قاعدة جامع السيد سلطان علي تشير الى ان تاريخ فتح الشارع كان في سنة 1332هـ ، ولا اعرف ماذا قصد بهذا التاريخ ، وسركيس عرف بتثبته وتحققه ، فضلا عن قرب بيته من الجامع المذكور .

ملاحظة : اعتمد الدكتور السعدون على وثائق القنصلية الانكليزية ببغداد التالية :

IOR, L/P,S/10/188, Summary of events in Turkish Iraq during the months of April and May and June, July .1910