هشام جعيط .. حارس التاريخ

هشام جعيط .. حارس التاريخ

علي حسين

يعترف ان سلطة الفرنسي فرديناند بروديل تهيمن على كتابته للتاريخ الاسلامي، رغم مرور ما يقارب الـ "40" عاما على رحيل صاحب موسوعة "الحضارة المادية"، فالمؤرخ الفرنسي الشهير لم يكن يهتم بتقديم تاريخ الملوك والحكام والحقب السياسية والحروب التي جرت على ارض بلاده ، فهذه برأيه يمكن المرور عليها سريعاً،

فهم يهتم أولاُ واخيراً بحياة الناس وتطور مفاهيمهم ، وكيف يبنون مجتمعهم.. ولماذا تنشا المدن ؟ وكيف تنمو الصناعات وتزدهر التجارة والزراعة، ودور الناس في ازدهار القرى والمدن، والعلاقات الاقتصادية بين الجميع، ودور الاديان في بنية المجتمعات.

كان هشام جعيط الذي رحل عن عالمنا قبل ايام قليلة يؤمن مثل بروديل بانتفاء الحدود بين التاريخ وعلم الاجتماع وعلم الانسان، ويضع دائما امامه عبارة الفيلسوف الشهير بول ريكور :» نحن لا نعيد كتابة التاريخ نفسه، بل نكتب تاريخا آخر لكننا نستطيع دائما مناقشة الاثنين.. مع الفرضية الأساسية القائلة أن التفسير في التاريخ لا يختلف اختلافا عميقا عن التفسير في بنية العلم “.

يعترف ان ما كتبه من كتب لم تكن كتبا تاريخية وانما كتبا فكرية فيها عنصر فلسفي. الفلسفة التي عشقها منذ ان كان طالبا في المدرسة الصادقية، وعن طرقها شغف بكتابات هيغل التي تتعلق بالتاريخ، كان صاحب “ ظاهريات الروح “ يؤكد ان المؤرخ الاصلي، لا يلجأ الى التأمل في في الاحداث، لانه يحيا بروح الاحداث نفسها. في باريس التي وصلها نهاية الخمسينيات حاول الشاب التونسي أن ينطلق في الآفاق الشاسعة التي اتسعت أمامه و كان كلما تقدم في سبل المعرفة، يكتشف سعة الهوة بين ما تعلمه، وبين ما يسعى للحصول عليه من معرفة، إلى أن وقع ذات يوم تحت سحر كتابات الفرنسي « أميل دوركهايم» التي القت بظلالها على تفكيره، ووجد فيها مدخلا لدراسة التاريخ الاسلامي. يكتب دوركهايم ان :» الدين يشمل جميع العناصر التي تتولد منها مظاهر الحياة الاجتماعية المحتلفة بتفرقها، واختلاطها في ما بينها بألف طريقة «.

ستاخذ موضوعة تاريخ الاسلام اهمية خاصة عند هشام جعيط، فيصدر أول كتاب بعنوان « الشخصية العربية الاسلامية والمصير العربي بالفرنسية عام 1974..ثم كتابه « اوربا والاسلام « الذي صدر ايضا بالفرنسية عام 1978، وفي هذين الكتابين يحاول جعيط التركيز على الغنى الشاسع للثقافة الاسلامية ويوجه نقداً لاذعاً للذين يتحدثون عن جمود الاسلام، مبيناً أن العروبة ليست مفهوماً عرقياً، بل بؤرة ثقافية جاءت لتصب فيها كل العبقريات الانسانية المتنوعة، ويؤكد جعيط أن الاسلام يبقى ديناً متجددا رغم كل شيء، بلغت ذروته الحضارية بين القرنين التاسع والثاني عشر، حيث كان الاسلام محفزاً لحراك فكري وعلمي كبير، وقد استطاعت ان تشكل لها امبراطورية جغرافية وفكرية، لكنها بدأت بالتقهقر منذ القرن الثامن عشر. ويشير جعيط الى ان محاولة المسلمين تجديد الفكر الإسلامي، مرت بعواقب، في ظل التراجع السياسي والعسكري للحضارة الإسلامية.

اهتمامه بالفلسفة والقراءات التي شكلت وجدانه الثقافي، لم يمنعه من السير وراء حكايات التاريخ التي ظلت ترافقه دوما، وهذا ما جعله يتردد في اختيار رسالته للدكتوراه بين الفلسفة والتاريخ، ليصطف في النهاية الى جانب التاريخ ويبقي على علاقته الوطيدة مع الفلسفة، يقول ان السبب في انحيازه للتاريخ انه وجد ان تاريخ الاسلام لم يدرسهُ المستشرقون بصورة علمية، موجها سهام نقده الى الكتابات الاستشراقية التي كانت ترفض الاستناد إلى ما كتبه المؤرخون العرب المسلمون. يستند هشام جعيط على مقولة هيغل من انه يستلزم ان يكتب تاريخ الامة رجل من ابنائها، وكان هيغل يرى انه ليس من اليسير على الفرنسي مثلا أن يؤرخ للامة الالمانية.. ولهذا كان جعيط يُعرف المؤرخ بانه ضمير الامة والعصر.. ويرى ان التاريخ الاصلي مثل الفن، لا بد من التعاطف والمشاركة الوجدانية.

يقف جعيط في معظم كتاباته بالضد من الخطاب الاستشراقي، ونجده يحاول ان يثبت أساسيات التاريخ الإسلامي أمام موجة النقد التي شكك فيها المستشروقون بكثير من حوادث التاريخ الاسلامي، بدعوى أن الأحداث المدروسة مروية فقط من وجهة نظر الرؤية الإسلامية :» فانني حين حاولت ان اكتب تاريخا شموليا، إنما اردت ايضا ان أروي، أن أخبر، وأكتنه من خلال الرواية هذه المرحلة الغنية بالرجالات والأحداث. وتوصلت في نهاية المطاف إلى أن أعيش مع هؤلاء الناس وهاته الاحداث “.

كان هشام جعيط قد كتب خلال سنوات عمره التي بلغت “ 86 “ اكثر من عشرة كتب جعلته ابرز كتاب التاريخ الاسلامي، اكدت ثلاثيته عن السيرة النبوية التي اخذت منه 20 سنة من العمل، ان مؤرخ الاديان، لا يهتم ان يكون مؤمنا أو غير مؤمن، فالمهم ان يقدم افكارا عقلية بعيدة عن العاطفة، ويجد جعيط انه لا توجد شخصية في التاريخ الاسلامي تستحق الدراسة اكثر من شخصية النبي محمد، لذلك كان كتابه عن موضوعة السيرة النبوية معتمدا على الكثير من المناهج العلمية المتعلقة بالتاريخ المقارن للاديان مع انفتاح على افاق الثقافة الانثروبولوجية التاريخية والفلسفة وعلم النفس، ليخرج لنا بسيرة نبوية خالية من المبالغات والاساليب الادبية التي ميزت كتاب السيرة مثل “ ابن هشام “ و “ الطبري “، كما ان دراسة جعيط تبتعد عن العاطفة الدينية، وتسخر من المبالغات التي سيطرت على الرواية التاريخية، حيث ان الكثير من هذه الروايات جاءت لارضاء الخلفاء الامويين ومن بعدهم العباسيين حسب قول جعيط. وقد اثارت قراءة هشام جعيط للسيرة النيوية ردود افعال من قبل التيارات السلفية والمتشددة التي وجدت ان هذه القراءة لا تتفق مع ما جاء في كتب التراث القديمة، لأن جعيط في ثلاثيته عن السيرة النبوية توصل الى نتائج لم يكن احد قبله يجرؤ بالتصريح بها، منها ان اسم النبي محمد قبل البعثة كان قثما، ومحمد صفة وليس اسما وهي صفة تطلق على الرجل ذو الشأن العظيم، ويتوصل جعيط ان سن النبي محمد عند البعثة كان ثلاثين عاما وليس اربعينا، اضافة الى استنتاجه ان النبي تم تهجيره بالقوة من مكة ولم يهاجر هو واتباعه بارادتهم، وان الرسول لم يكن يجهل القراءة والكتابة كما يذكر المفسرون والمؤرخون، لان كلمة “أمي “ في القرآن تعني الامة التي ليس فيها نبي وليس معناها الجهل بالقراءة والكتابة.. ويرد جعيط على الاتهامات بالاساءة الى شخصية النبي بالقول :” أنا لم أمس بالقداسة الدينية أبداً،لا كمؤرخ ولا كمسلم، فأنا مسلم واعتبرت أن ما كتب من قبل المسلمين والمستشرقين بدءاً من القرن التاسع عشر لم يعط الرسول حقه كرجل مؤسس لدين كبير، ولم يعر الاهتمام الكافي للمعاناة وللجهد والعمل الذي قام به في ميدان الفكر والوحي. «.

ولد هشام جعيط في السادس من كانون الثاني 1936، لعائلة تونسية عريقة، والده وجده من خريجي جامع الزيتونة، ومن علماء الدين والفقهاء، وقد ساهمت هذه النشأة الاسرية في توسيع دائرة اهتماماته، سواء في القراءة او المشاركة بالعمل الوطني.يقول جعيط في احدى حواراته : “ فعلا كان والدي زيتونيا، لكن كانت له ثقافة حديثة، وكان مغرما في شبابه بما يجري في الشرق، وكانت تصله عدة مجلات من مصر ومن لبنان، وكنت اطالعها معه ونتناقش في العديد من الموضوعات التي تهم الشأن العربي والاسلامي “ وكان الجد اديبا، شجع حفيده على الدراسة في المدرسة الصادقية ليتعلم الفرنسية، وايضا الفلسفة وعلوم اللغة العربية والفقه، وقد ظل الفتى هشام جعيط منسجما مع وسطه العائلي الذي سيتمرد عليه في سن الثامنة عشرة تحت تاثير كتب طه حسين وسلامة موسى والعقاد، واكتشافه الفلسفة التي كانت بمثابة مفتاح الدخول الى عالم جديد :” كان اكتشاف الفلسفة بالنسبة لي بمثابة الفتح والتجلي. ولست أعني بذلك الميتافيزيقيا فقط، بل وأيضا علم النفس والمنطق والأخلاق «.

بعد حصوله على الشهادة الاعدادية، سافر إلى باريس ليدرس بدار المعلمين العليا التي تخرّج فيها العديد من المشاهير في مجال الأدب والفلسفة أمثال جان بول سارتر، وسيمون دوبوفوار، وارون، وميشيل فوكو، وآخرين. وفي باريس ستتعمق قراءاته وافكاره من خلال التفرغ لقراءة اعمال هيغل ونيتشه وهايدغر وشوبنهور، واعادة قراءة كتب التاريخ الاسلامي.

عام 1962 حصل على الشهادة الجامعية في التاريخ، ليعود الى تونس ويعمل أستاذا في كلية الشريعة، ويصف هذه الفترة بانها « منفى داخلي». حيث وجد اجواء تونس تزدحم بالتخلف الفكري والثقافي مقارنة بباريس، وخلال السنوات الخمسة التي عمل فيها مدرسا، اعاد قراءة كتب ابن خلدون والمسعودي والطبري. عام 1967 يعود الى باريس، وبعد سبع سنوات يصدر له اول كتبه بالفرنسية بعنوان « الشخصية العربية الإسلامية والمصير العربي “، وبعد عام ينشر كتابه المهم “ أوروبا والإسلام.. صدام الثقافة والحداثة « « حيث فتح هذا الكتاب ابواب الشهرة امام جعيط، بعد ان ترجم الى عدد من اللغات، إلا ان الكتاب الذي برز فيه هشام جعيط كواحد من ابرز كتاب التاريخ الاسلامي هو كتاب “ الفتنة.. جدلية الدين والسياسة في الاسلام المبكر “ الصادر عام 1986، وفيه يقدم تحليلا علميا للفتنة الاولى في الاسلام، وهو يعترف انه خصص سنوات لدراسة هذا الموضوع حيث وجد ان المكتبة العربية تفتقر الى دراسة جادة باستثناء كتاب طه حسين “ الفتنة الكبرى “، الذي يأخذ عليه جعيط بانه يتميز بطابع ادبي اكثر مما هو تاريخي، ولهذا نجده في كتابه “ الفتنة “ يحاول ان يغوص في قلب المناخ السياسي والعقلي والاجتماعي للعصر، وان يسعى لفهم كيفية تفكير اهل ذلك العصر، وما كانت عليه حياتهم ومقولاتهم وقيمهم، وان يحلل البنى الاجتماعية لذلك العصر، في محاولة لكتابة تاريخ شمولي.. ونحن نقرأ كتاب “ الفتنة “ نتيقن ان واضعه رجل تربى في كنف التقليد الاسلامي، وهو يكافح في وقت واحد ضد الرؤية التقليدية للامور وضد حداثة تبسيطية :” لقد ساعدني التاريخ الصحيح والقويم، في مشروعي الصعب، حين جعلني اقيم مع هذه المرحلىة التأسيسية للهوية الاسلامية، علاقة معرفية يخترقها التعاطف والتودد في اعماقها “ يكتب هشام جعيط في التاريخ وهو يحاول ان يمزج المعرفي بالمعاش، والعلم بالحياة وهو يرى ان احياء جانب من التاريخ الاسلامي،انما هو جزء من مسريته الوجودية.

اهتم جعيط بتاسيس المدينة العربية، ولعل كتابه “ الكوفة.. نشأة مدينة “ الذبي كان اطروحته للدكتوراه، بمثابة نظرية لتاسيس المدينة العربية الاسلامية، وقد اختار الكوفة باعتبارها ول مدينة ينشئها المسلمون العرب خارج الجزيرة العربية وذلك أيام الخليفة الثاني عمر بن الخطاب، لكنها سوف تكون بعد قرون قليلة، أول مدينة إسلامية تتم محاولة ازالتها تزول من الوجود، ولأسباب سياسية. ويرى جعيط أن «الكوفة المتخفية اليوم في رمالها، تبدو أكثر تخفّياً في ثنايا أقدم النصوص التاريخية، وتنهض لنواظرنا مجلببة بكل هيئاتها وأجهزتها الكثيفة والكثيرة في آن. فقد خالجتها رعشات الحياة النابضة بقوة، وهي تتكون بين النهر والصحراء مشرفة على سهول بلاد الرافدين... “، ونجده يشتغل على مئات المصادر العربية القديمة والحديثة، بخاصة منها تلك التي أرخت لتكون مدينة الكوفة مزدهرة فكريا وهي التي أنجبت كباراً من الشعراء والمفكرين العرب– ومنهم بالطبع أبو الطيب المتنبي الذي تتزامن بدايات سيرته كما نعرف، مع تدمير المدينة على يد القرامطة في مشهد عايشه طفلاً ولم يبارح ذاكرته، ويؤكد لنا جعيط أن غايته الأساسية من كتاب “ الكوفة “ هو إقامة « حوار حقيقيّ بين حضارة الكوفة العربية، وتلك الحضارات التي تقدّمتها كالبابلية والفارسية والهلنستية والرومانية “، ولهذا هو يتخطى الكوفة ليقوم باستجواب البصرة وواسط وبغداد وصولاً إلى دراسة حركة نشوء المدينة الإسلامية «.

كعادة الموتى يوغل هشام جعيط في الصمت.. لكن أي صمت لرجل ظل طوال خمسة عقود مالئ الحياة وشاغل الفكر،فهو حين يوغل في صمته فأن آثاره ومعاركه الفكرية وكتبه ودراساته وطلبته يوغلون في الحوار، وهم يحفظون بكل حب كلمات معلمهم وينتزعون منها طريقاً للمستقبل، ومهما تنوعت الأساليب التي استخدمها في التعبير عن آرائه وأفكاره،بقي عنده مقصد واحد جلي لم يمل عنه إطلاقا هو الوجود الإنساني وكما كان شيوخه الأوائل امثال ابن رشد وابن خلدون وهيغل ودوركهايم يسعون إلى أن يكونوا (حراس الحقيقة) في فلسفتهم سعى أركون إلى أن يكون حارس التاريخ.