حسرة  عزيز السماوي

حسرة عزيز السماوي

فيصل لعيبي

حسرة

من يشرب الشاي الأحمر, كعين الديك معي بعدك ؟

من يمتع اذني بالشعر والأعاجيب من حكايات الشعراء؟

من يفتح قلبه الأبيض والمحب للصداقة مثلك ؟

لاتزال ضحكتك مجلجلة في الأماكن .

في كل زاوية وركن جميل هنا في لندن لك ذكرى وموقع قدم .

لازلنا نجتمع حول مائدتك ونشرب نخبك .

نعيد الحكايات كما كنت تفعل .

نرددها مثلك للمرة الخامسة والسادسة ولن نمل .

زرنا مكانك الأخير ووضعنا الجوري الذي تحب تحت قدميك ..

ووقفنا عند عتبة السلم الذي غيبك عنا .

وصل مخلص متأخرا ووميض لم يلحق .وذابت وطفاء في الزحام وجلست فاطمة كاللبوءة الجريحة .

وجاء شاكر وسعدي والأصدقاء من آفاق بعيدة .

اما نحن الذين لم نصدق , فلانزال ننتظر الهاتف وسماع صوتك وهو يسال , عن اخبارنا الطيبة

****

يقول بريشت في مسرحيته عن غاليلو على لسانه :” مسكين الشعب الذي يحتاج الى ابطال “, وانا اخالفه في ذلك لأن الشعب الذي يفتقر الى الأبطال لايجد امامه الا الحكام المستبدين .

المبدع او المثقف , هو بطل ايضا ودوره اكبر من دور القائد , هو ضمير شعبه وحافظ وجدانه وحامل الثروة الروحية المنحدرة اليه عبر التأريخ .

المبدع الحقيقي غير منتم للسائد والمتبع والعادي من الأمور , انه مغير ومثير اسئلة ويجيب على اسئلة لم يجاب عليها .انه غريب وغير مفهوم , كما يقول المتنبي :

انا في امة تداركها الله

غريب كصالح في ثمود

مامقامي بأرض نخلة الا

كمقام المسيح بين اليهود

المثقف داعية للثورة والهدم لأعادة البناء على اسس جديدة , حية , سليمة .وعزيز السماوي من هذا الطراز من المبدعين , متمرد وفاعل داخل مجتمعه ومناضل دون ان يربط نفسه بتيار او حزب ا و جهة ما , لكنه يعرف انه تقدمي النزعة , انساني النظرة خاصم اقرب الناس اليه من اجل الحق وصارع اقوى الأحزاب في سبيل قيمه , ولم تغريه المصالح الشخصية ولا المنافع الآنية .فهو كالمتنبي القائل :

سبحان خالق نفسي كيف لذتها فيما النفوس تراه غاية الألم

يقول عزيز في قصيدته : صوت , مايلي :

تمنيت هذا العمر حجرة او دمع واكتاب

ريح المنافي نذل يدوي او تصده ابواب

الموت ياخذ غفل من بين ايدي احباب

كاس الحزين انترس ظلمة وجمر واتراب

لاذاك يطفي الجرح

لاولا هذا الزمن يسوى العتاب

كل الرجال اتموت مقتولة ابحزن واسرار

بس كبر النذل

تهز بيه الفضايح والخزي والعار

هيبه النهر

يصعد حنين او يرد

يصعد امواج او يرد

يصعد ليالي او يرد

حزين امن السفر دايخ حزين

هيبة اليكتب ايامه حنين الماي عالطين

تعرفت على عزيز في عام 1969 عندما طلب مني ان ارسم ديوانه : اغاني الدرويش, وقد اثارتني اشعاره واستطاعت ان تغير من اتجاه الرسم عندي, وقد استفدت منه كثيرا في مجال عملي التشكيلي ولم تنقطع علاقتنا منذ ذلك التأريخ .

ينتمي عزيز السماوي الى شعراء اللغة المحكية , لغة الناس والشارع والاسواق لغة لم تغلفها الرسميات ولا النصوص الجامدة ولاحتى القداسات الفارغة , انها اللغة الديموقراطية كما يحلو لعزيز تسميتها , وهو يستعمل خليط من اللهجات احيانا , لهجة المدينة مرة ولهجة الريف القريب الى المدينة والريف المغرق في ابتعاده عنها , كما انه يستعمل مفاهيم اهل الحضر واهل الريف وربما يعتمد في بعض قصائده على مفاهيم بدوية نبيلة مثل الكرم والشجاعة وحفظ الأمانة وما الى ذلك . بإختصار شديد هو ابن التحول الذي مر به العراق في القرن العشرين .

ويمكن اعتبار اعماله الشعرية تمثيلا حي لهذا التحول , وتفسيرا ايضا لتناقضات الحياة العراقية المعقدة اصلا ,حيث الأندفاع والتراجع والصوت العالي والخافت الجرأة والخجل القيم الحديثة وتقاليد المجتمع القديمة .

كان شعر الناس هذا سلاحا مهما بيد المسحوقين يمكن ان يمرر به الشاعر الأفكار التي يريد الناس انفسهم ايصالها “ الى من يهمه الأمر” وبسبب تأزم الوضع العراقي بمجمله نجده يتردد على السنة المثقفين والعامة معا , طلبة الجامعات وقراء الجوامع وخطباء المساجد والحسينيات . ومن هنا ولدت طبيعته الجماهيرية وتميزه عن شعر النخبة والدائرة الضيقة للغواة . والحق ان اهم الأعمال الفنية في العالم , هي نتاج الوعي والمخيلة الشعبية , حتى ابعد الأعمال الفنية عن الواقع و التجريدية مثل الموسيقى . فكل من يستمع الى سوناتات شوبان او موسيقى موتسارت او بتهوفن وحتى سيبليوس الحديث نسبيا سيدرك ذلك بعد تمعن جدي لتلك الأعمال العظيمة .

الشعب اذن ليس فقط مصدر السلطات وانما مصدر الألهام الحقيقي للمبدعين , ومن هذا المخزون أخذ مبدعو بلادنا وانتجوا ما انتجوا من روائع .

كانت صفة التمرد والأنفعال العالي النبرة اهم مميزات شعر الصديق عزيز السماوي وابرز ملامح شخصيته بين اقرانه من الشعراء , فهو يندفع بقوة خيوله التي لاتفارق قصائده ويصهل بصوته الجريح والصارخ حد البكاء محطما امامه الحواجز والموانع المختلفة فيغالي في طلب المستحيل , فهو قادر على جعل الفحم وردة , كما في هذا المقطع :

« أكدر اسوي الجسر دنبوس

وأكدر اسوي الفحم وردة . «

لكنه ينهد ويلتم على نفسه مع ابسط خطأ يراه امامه يرتكبه من يضع ثقته فيه , هكذا كانت علاقته مع الشيوعيين الذين يتعرضون للقمع والأرهاب على امتداد تأريخهم البطولي المرافق لأخطاء عديدة ايضا , فهو لايستسيغ خطأ الشاطر كما كان يردد : “ غلطة الشاطر بألف “ ولأن الشيوعيين يملكون برنامجا عصريا ومتقدم على برامج القوى السياسية الأخرى , فهو لايغفر لهم هذه الأخطاء واحيانا يسميها الغفلة او عدم التعلم من التجارب . كان شديد الألتصاق بالعراق ولايمر يوما دون ان يسأل عن الأخبار ومع كل انعطافة او حدث بارز يسأل “ عن موقف الجماعة “ كما كان يسمي الحزب الشيوعي احيانا . فهو ابن المرحلة الجيفارية ونكسة حزيران التي شارك مع مجموعة من الشعراء في نقدها بكراس شعري عن المعركة , يتوق للنمرد ونفض الغبار عن امة العرب هذه ففي الوقت الذي يرى فيه الوضع العراقي من الهشاشة والضعف بحيث لايحتاج الى اكثر من هزة بسيطة , يجد امامه الثوريين العراقيين يتصارعون حول ثورية الصين ام الأتحاد السوفياتي , كان يدرك اهمية الفرص المتاحة امامهم لكنه ايضا يعرف عدم جدية العديد من “ الثوريين “ فيما يتعلق بالثورة .

كان ابو مخلص شاعرا تراجيديا من طراز خاص , لهذا نرى قصائده التي نلمس فيها شيئا من الفرح قليلة جدا وقد لاتتجاوز اصابع اليدين على امتداد الفترة التي كتب بها الشعر , حتى العواطف الخاصة به نجدها نادرة ومنتشرة بطريقة مختلطة مع الهموم العامة للناس .

ونلاحظ ايضا ان قصيدة عزيز هي قصيدة البيت الواحد اي انها اقرب الى الدارمي من غيره , قهو يكتفي ببيت واحد ثم ينتقل الى بيت آخر له موقف ومعنى مختلف , لكن القصيدة تبقى عموما واحدة في الهم والتوجه . لقد ساهم عزيز مع مجموعة من اصدقائه الشعراء بمد مساحة شعر الناس هذا وادخال الفكر الوجودي والسوريالي وكذلك الصوفي في روح هذا الشعر مضيفين الى ما قدمه الشاعر الكبير مظفر النواب من اسهامات هامة اغنت الشعر والشعراء وفاتحا امامهم ابوابا موصدة ومجالا للنمو والأنتشار .

لم اتعرف على شاعر عراقي يحب ورد الجوري مثل عزيز السماوي , : “انه ورد المحبة والوله والحياة “ كما كان يقول , كان بابا غرفة الجلوس وغرقة النوم في مسكنه بمدينة سكيكدة الجزائرية مغطى بالورد الجوري , وهو يختاره للأصدقاء عند زيارته لهم حاملا معه ورده وبشاشته التي لاتفارقه .

عزيز جليس لايمل صاحب نكة وكاس قبل ان يداهمه مرض السكر الذي قتله , وله مفارقات ومواقف تحتاج الى كتاب لجمعها , وفي جدا حد الأيثار وصدوق حد الزعل وصريح حد المقاطعة , لم يرد طلب لأحد اذا كان قادرا عليه ويبذل المستحيل من أجل ذلك , دقيق ومنظم ويملك ذاكرة مدهشة , يعرف تواريخ اهم الأحداث في العالم وفي حياة المشاهير , يعتز بآراء اصدقائه ويكره النفاق والتزلف والجبن . حدي في طرح الآراء ولايجامل في القضايا الهامة .

لايزال معنا في جلساتنا وغالبا ما نتذكر حكاياته ونشرب نخب الوداد والصداقة على روحه التي تحوم حولنا دائما فنسمع انفاسه بيننا . مع انه الآن يرقد وحيدا في مكان قصي تحيطة البرودة والرطوبة والفراغ والظلام , منتظرا زيارتنا ليسمع الحديث الذي يحب والأخبار التي تسر ,هل عرف بإنتهاء حكم العصابة ؟ هل اخبرناه بنهاية الأجرب صدام حسين ونظامه الوحشي ؟

وهل نسرد عليه تفاصيل الأيام التالية وما جرى بعد ذلك لنزيد من توتره ؟

لكن وانا لاأزال غير مصدق رحيله عنا , كيف طاوعته نسفه ليتركنا في الوقت الذي يجب عليه البقاء والإنتظار ليرى آلاف الأحذية والنعل تنهال على القائد الضرورة , وتغرقه الجماهير بالبصاق .

كنت العب الشطرنج في مرسم رسام فرنسي مقيم في لندن , عندما اتصلت بي زوجتي وهي تبكي وتقول : - “ لقد مات عزيز , اخبرتني ام مخلص الآن , التحق بي في بيتهم “ . لم افهم جيدا الكلام ورقعة المعركة التي على وشك كسبها مع هذا الزميل تشوشت ايضا هل انا في حلم , كيف يموت عزيز وانا الذي استمد العزم والقوة من عناده ؟ اي مقاييس هذه التي تتحكم ؟ لحظات ادرك صاحبي الفرنسي حيرتي فعلق : انت متعب على ما يبدو لنترك اليوم اللعب ولنخرج لتناول النبيذ . لكني فاجأته عندما قلت له لقد مات اخي هذه اللحظة والأتصال كان من زوجتي . بهت وقال هل اقدر على فعل شيء بهذا الخصوص ؟ لكني لم اجبه إلا ب : الى اللقاء .

خرجت لا الوي على شيء لكني تذكرت الشاعر عبد الكريم كاصد فهو صديق حميم لعزيز رغم الجفوة التي اعترت صداقتهم مؤخرا . اتصلت به فلم اجده لكني وجدت الراحلة هي الأخرى زوجته حذام التي لم تصدق بما اخبرتها , ووعدتني بإخبار كريم عند مجيئه .

كان مسجى على السرير بمهابه وعيناه مغمضتان , مديد القامة بشعره الذي استرسل حتى كتفيه مع فتحة خفيفة لفمه الذي كان يصرخ فينا : “ دلوني العراق منين ؟ “ , قبلته وبكيت عليه كما لم تبكي الأم على وليدها و كانت عائشة زوجتي مثلي تماما فاقدة لرشدها وغارقة بدموع ويخنقها النشيج مع ان الجزائريين نادرا ما يبكون على الميت منهم , هذا ما لاحظته اثناء مقامي بينهم .!.

جاء الصديق الشاعر عبد الكريم كاصد والحيرة بادية عليه وكان الاصدقاء ابو حسام وام حسام وابو عبير قد سبقونا الى بيت ابي مخلص , لم نعرف كيف نواسي بعضنا ,وام تخاطب عزيز بصوت عالي وتخبره بوجودنا مرددة اسمائنا واحدا واحد وتدعوه للنهوض والجلوس معنا , جاعلة المشهد اكثر إلاما وفجاعة . بعد فترة جاءت وكالة دفن الموتى لتنقله الى مخزن الجثث اذ انه فاجأ الجميع برحيلة , انتظارا لإيجاد مستقر له في مقبرة ما , كان عزيز يحب الكبار من ابناء الجنس البشري وهو فخور بدفن مجموعة من العراقيين من أصدقائه قرب قبر كارل ماركس في مقبرة هاي كيت , ولم يكن عزيز اقل قدرا من هؤلاء العراقيين , وهذا ما فكرنا به نحن الأصدقاء لكن الريح جاءت عكس رغبة عزيز ورغبة اصدقائه فدفن بعد فترة من الأنتظار في مقبرة بعيدة مع مجموعة من العراقيين ايضا , بموكب مهيب يليق به تحيط به الأزهار وورد الجوري .

في كل مرة نودع صديقا نلاحظ اعين الأحبة وهي تتطلع فيما بينها كمن تسأل من هو الراحل القادم منا ؟

سيبقى عزيز معي فقد ترافقنا اكثر من رفقة الأخوة وسرنا دروبا وعرة ولم نهن ولم نضعف ولايزال يمدني بالقوة والمنعة ولا ازال اتزود من شعره ومن مواقفه مع رحيله قبل اعوام .