عيد الصحافة العراقية..بين رفائيل بطي وولده فائق وعالم الصحافة

عيد الصحافة العراقية..بين رفائيل بطي وولده فائق وعالم الصحافة

توفيق التميمي

يقول روفائيل بطي لولده فائق في مساء الخامس من ايلول 1946 وهم في شقتهم الجميلة في شارع عبدالخالق ثروت وسط القاهرة (ولدي الخبز...الحرية...الكرامة كلها ضاعت ياولدي العزيز في العراق(،اي خبز واية حرية واية كرامة يتحدث عن ضياعها الوالد قياسا لضياعها في العهود الجمهورية التي شهدها فائق شابا متحمسا متحولا من الفكر القومي الى الفكر اليساري الذي جذب قطاعات من المثقفين والنخب المتطلعة الى التغيير مع موجة امتداد الاشتراكية في عالم مابعد الحرب الكونية الثانية.

شعار(الخبز.. الحرية.. الكرامة)، قاد روفائيل والد فائق الى دورات عديدة في مجلس النواب في الاربعينيات من القرن المنصرم، حيث لم يتذوق العراقيون طعم الخبز وهم يبحثون عن لقمة العيش لتفشي البطالة الضاربة اطنابها في طول البلاد وعرضها، ولم يعرف الوطنيون معنى الحرية المفقودة، والكثيرون من الطلبة والعمال والسياسيين يرزحون في غياهب السجون،وحيث الكرامة تسحق في الكليات والمعاهد وفي دوائرالدولة والجيش، بالمحرومات والقيود والمحسوبية والاكراه للتخلي عن الافكار القيمة والتقدمية بحجة "المبادئ الهدامة!" وفي تطبيق قانون الخدمة العسكرية الالزامية وسوق الطلبة في العطلة الصيفية الى معسكرات سكرين في شمالي العراق والرشيد في بغداد. لقد كانت الحرية والكرامة بالفعل ضائعة، واستمرت ضائعة وبصورة دموية وارهاب وعنف لا يطاق على يد من حكم العراق بعد اغتيال ثورة 14 تموز الوطنية.. التقى فائق طالب الثانوية المراهق صدفة بتاجر وطني في الشورجة اسمه هادي منصور كان اول من هداه للافكار الاشتراكية والشيوعية التي وجدت في روحه المتطلعة للعدالة وانصاف الفقراء الذين كان يلتقي بهم فائق في الشارع والمطبعة رغبة وتناغم،وبعدها توثقت عرى الصداقة والزمالة مع الطالب الشيوعي جلال حمودي زميله في المرحلة الاولى من كلية الاداب والعلوم، وربما بسببهما المباشر اختار فائق بطي نجل البرلماني والوزير القومي روفائيل طريق اليسار والشيوعية تحديدا لمقاومة ما كان يراه من فساد ورجعية وارتباط بالاستعمار واحلافه وغيرها مما كان يعتقد بانه مقترن بوجود النظام الملكي الذي ناهضه ودخل سجونه وذاق طعم لسعات جلاديه. كان فائق بطي واحدا من اولاد الذوات والطبقة البرجوازية التي تسللت من بين جناحها المخملي لطريق اليسار الوعر والموزع بين احزاب علنية كالحزب الوطني الديمقراطي واحزاب سرية كالحزب الشيوعي العراقي، فلو استعرضنا اسماء اولئك المنخرطين في حركة اليسار العراقي خصوصا الحزب الشيوعي العراقي الذي تأسس عام 1935، من ابناء (ذوات) البيوتات العراقية المعروفة، منذ مطلع الثلاثينيات حتى ثورة 14 تموز 1958. فمنهم من سقط شهيدا في شوارع الوثبة والانتفاضات (الرشيد والكفاح وباب الشيخ)، ومنهم، المئات الذين توزعوا بين سجون نقرة السلمان والحلة والسجن المركزي في باب المعظم، الى جانب الذين انتزعت عنهم الجنسية العراقية، او الذين نجحوا في السفر الى خارج الحدود الى سوريا والقاهرة ولبنان. كمثال نذكر اولاد كامل الجادرجي رفعت ونصير، الزعيم الديمقراطي المعروف، والوزير علي حيدر سليمان، وامين زكي، وعائلة الوزير القاضي، وآل الملاك، واولاد الحاج حمود، وآل الشبيبي، وآل مشتاق والقزانجي، وعشرات من العوائل الميسورة الاخرى.اما فيما يتعلق باصطفاف قوى اليسار العراقي الذي حدد بدوره وجوده كتيار سياسي قوي وناشط، فقد نما وتطور عبر مسيرة طويلة من المعارك والتجاذبات على المستويين، ميدان الشارع،والتنظيم الحزبي والنقابي، وتشكل منذ عام 1946: من الحزب الشيوعي العراقي، بقيادة يوسف سلمان (فهد)، والوطني الديمقراطي بقيادة كامل الجادرجي، وحزب الاحرار بقيادة سعد صالح، وحزب الشعب ورئيسه عزيز شريف، وحزب الاتحاد الوطني بزعامة عبد الفتاح ابراهيم،وعصبة مكافحة الصهيونية، والحزب الديمقراطي الكوردستاني بقيادة الرمز الملا مصطفى البرزاني، الى جانب المنظمات الديمقراطية للطلبة والشبيبة والمرأة ونقابات العمال، والمئات من الشخصيات الوطنية الديمقراطية المستقلة. قرر والده بحسه الأبوي والسياسي خطورة بقائه في العراق، ولهذا قرر فائق عدم اكمال دراساته في كلية الاداب والعلوم والسفر لمصر واختيار الصحافة التي عشقها وتمرن عليها في مختبر جريدتهم البلاد،وربما كان فائق بطي اول عراقي يتخصص في دراسة الصحافة في جامعة الملك فؤاد بالقاهرة اواسط اربعينيات القرن السابق. شكل ظهور ابيه روفائيل بطي وزيرا في وزارة الجمالي صدمة للشاب فائق بطي المعارض للملكية وحكوماتها المتعاقبة كما كشفته مذكراته لاحقا، و كانت نقطة افتراق او مراجعة في علاقة ابوية خصها لابن من دون ابنائه في دعم مواهبه الصحفية ومؤازرته في مشاكساته ومشاغباته الشبابية وتمرداته المكلفة له وللعائلة، وحاول حينها ان يثنيه عن قراره بقبول الاستيزار، الا ان وراء القرار كانت دوافع اخرى لم يقتنع بها الابن، ادت الى رضوخه لاصراره على السفر الى مصر ودراسة الصحافة هناك،. بالطبع برغم ذلك لم تكن هناك قطيعة بينه وبين والده، فالوالد وان كان قومي النزعة، الا انه كان ديمقراطيا بعلاقاته، فهو يحترم الرأي والرأي الآخر، وكان ينتظره وبأمس الحاجة له كي ينهي دراسته التخصصية بالصحافة ويعود الى الوطن ليتسلم مسؤولية جريدة (البلاد) ويتفرغ والده للتأليف، الا ان المنية عاجلته في عام 1956 رحمه الله. في فجر العاشر من نيسان 1956 تلقى فائق بطي وهو في القاهرة النبأ الفاجع بوفاة والده المفاجئة (قرأت وانا اتصفح جريدة الاهرام في القاهرة صبيحة ذلك اليوم الحزين، نعي الوالد، فكانت بالفعل صدمة كبيرة لم اتوقعها، اذ لم يكن مريضا ولا يشكو من اي مرض طوال حياته، وعند استفساري للتو من بغداد عن سبب الوفاة، قيل لي بأنه كان مدعوا مساء امس عند صالح جبر، رئيس الوزراء السابق، وان هناك شكوكا باغتياله عن طريق دس السم في طعامه. لم اصدق هذا الخبر، فالوالد صديق الكل، وليس له اعداء، اللهم الا الخصومة من بعض السياسيين، كنوري السعيد مثلا، ولو استبعد ذلك، الى ان تبين لاحقا بان الوفاة كانت نتيجة الذبحة الصدرية. وعند ذاك، انتابتني موجة من البكاء وانا احدق في صورته التي لم تفارقني منذ ان غادرت بغداد الى القاهرة لغرض الدراسة، خصوصا اني كنت استلم منه رسائل بانتظام وهو يحثني الخطى لانهاء التعليم الجامعي، والعودة الى الوطن لتسلم الامانة منه في عالم (البلاد).لم استطع السفر الى بغداد للمشاركة في التشييع بسبب مذكرة القاء القبض علي، الصادرة من مديرية التحقيقات الجنائية لنشاطي السياسي المعادي للحكومة في الصحف المصرية وفي اذاعة صوت العرب (ومن مفارقات القدر، ان الحرمان هذا، حرمني لاحقا من تشييع الاخوة الثلاثة ايضا: بديع، الذي توفى في نيويورك وانا في بغداد، وكمال، الذي غاب وانا في موسكو، وسامي، المتوفى في بغداد وانا في لندن، وكنت قد فقدت ولدي رافد بحادث مرور وهو يدرس في امريكا) فبقي هذا الحرمان من المشاركة في تشييع الوالد، دينا في عنقي، حتى حان الوقت لرد هذا الدين الكبير والغالي، في صفحات كتاب (أبي) الصادر في نهاية صيف 1956. فقد اولاني هذا الانسان، الاهتمام المطلوب من أب لولده كي يورثه تلك الكنوز الدفينة، وان يكمل ما بدأه في مشوار الصحافة والادب، حتى باتت رسائله، موجات توجيه وتربية وتشجيع ورعاية، خوفا من ان تضيع من يده الثقة باصالة الوريث، فتضيع معه ذكراه.)

في حوار مع الدكتور فائق بطي في منزله باربيل صيف 2011