طارق إبراهيم عراقي حرر الخزف من أشكاله التقليدية

طارق إبراهيم عراقي حرر الخزف من أشكاله التقليدية

فاروق يوسف

فنان تذوق الكمال واحتفل بالزوال

بوفاة طارق إبراهيم فقد فن الخزف الحديث في العراق آخر رواده. كان إبراهيم رابع أركان المربع الذي أطر تجربة الخزف العراقي بأسلوبه الحديث. الثلاثة الآخرون هم سعد شاكر ونهى الراضي ومقبل الزهاوي.

كل واحد من الأربعة كان لديه أسلوبه الذي يعبر عن الارتباط بمرجعية فنية مختلفة. يمزج ذلك الأسلوب بين طريقة النظر والتفكير الشخصية والتأثيرات المعاصرة التي يحملها الفنان من البلدان التي درس فيها. إبراهيم كان صينيا ولم يكن كذلك تماما.

المتمرد المخلص

تعلم إبراهيم الحرفة التقليدية بكل ما تنطوي عليه من مهارة ودقة وإتقان غير أنه تحرر من كل شروطها منحازا لحريته التي أسس من خلالها مشروع تمرده على الخزف التقليدي لا على مستوى الوظيفة وحدها بل وأيضا على مستوى الشكل الذي صار بمثابة اختبار للمسافة التي تفصل بين الخزف والنحت.

لم تكن قطعه الخزفية منحوتات خالصة. لقد حرص على الحفاظ على خصوصية الخزف التجريدية ولم ينزلق إلى مناطق تعبيرية هي من اختصاص النحت.

وبالرغم من أن الفنان تمرد على الطابع الشكلي للخزف التقليدي فإنه لم يقطع الصلة بالعناصر الجمالية التي هي بمثابة الأسس التي تقوم عليها بنية ذلك الخزف.

العالم الذي يجمع بين صورة الشيء وفكرته

صانع حياة من جهة تأملاته الفلسفية

وكما أرى فإن إبراهيم مارس تأثيرا على أجيال من الخزافين لم يمارسه أحد من مجايليه. ربما لأن فنه انطوى على نوع من المغامرة التجريبية وربما لأن تجربته امتزجت فيها تأثيرات عالمية مختلفة صارت بمثابة مصدر غواية هي أصل المنطق الشعري الأخاذ الذي ينطوي عليه فنه.

لم يكن إبراهيم معلم خزف تقليديا وهو الذي مارس مهنة التعليم عبر سنين حياته التي عاشها في العراق. كان صانع خيارات معرفية ومجدد مهارات فكرية عبر ثقافة لا تتمحور حول الخزف وحده.

لأنه كان قارئا نهما فإن كل مَن تأثر به مشى على طريقه في الشغف بالقراءة. كل تلك المهارات الفكرية كانت خلفية ثقافية لم تنحرف بالخزف عن مساره التجريدي البحت. فما من حكايات ولا أفكار يمكنها أن تفسد رؤاه البصرية العميقة التي تعنى بالشكل باعتباره مصدرا للأفكار وليس نتيجة لها. لذلك يحتاج المرء وهو ينظر إلى أعماله إلى مهارة تأمل سيكون عليه أن ينميها ويطوع أفكاره لتنسجم معها.

المثقف في مرآة تلاميذه

عبر علاقتي به التي استمرت لأربعين سنة لم أقل له جملة كدت أنساها الآن “ما الذي فعله بك سور الصين العظيم؟”.

ولد عام 1938 ودرس الفن التشكيلي في معهد الفنون الجميلة ببغداد وتخرج عام 1959. ذهب في بعثة دراسية إلى الصين وكان رفيق سفره صديقه في ما بعد الرسام رافع الناصري (1940 ــ 2013 ) .

معلم الخزف لم يكن معلما تقليديا وهو الذي مارس التدريس عبر سنين حياته التي عاشها في العراق. كان صانع خيارات معرفية ومجدد مهارات فكرية عبر ثقافة لا تتمحور حول الخزف وحده

اختار إبراهيم دراسة الخزف فيما اختار الناصري دراسة الحفر الطباعي ”الغرافيك“، وكلاهما فنان صينيان عريقان تعود جذورهما إلى آلاف السنين.

ولأن الصينيين كانوا خزافين دائما فقد كان على إبراهيم أن يبذل جهدا مضاعفا. فهناك الحرفة وهناك الخبرة التي تقابلها. فالخزاف هو الآخر صانع حياة من جهة تأملاته الفلسفية. تعلم أصول الحرفة وصارت خبرته بطرق الرؤية تتطور باستمرار من غير أن تقف عند حد معين.

حين أنهى الفنان دراسته في الصين لم يعد إلى بغداد. يومها بدأت مغامرة حياته حين قرر الذهاب إلى روسيا التي انتقل منها إلى كوبا وقضى هناك بضع سنوات ثم عاد بعدها إلى بغداد. لقد اختار الطريق الطويلة في عودته فيما عاد رفيق بعثته الناصري إلى بغداد مباشرة حال انتهاء الدراسة.

ومثل الناصري عُين إبراهيم معلما للخزف في معهد الفنون الجميلة ببغداد إلى أن أحيل على التقاعد، فغادر العراق متجها للإقامة في الولايات المتحدة وكان يزور عمان بالأردن بين حين وآخر لإقامة معارض شخصية أو ممارسة عدد من الأنشطة الفنية.

رحلتا الفنان إلى روسيا وكوبا وإقامته فيهما خففتا كثيرا من المبالغة الحرفية الصينية وفككتا الكثير من ألغاز فتنة الدرس الفني الصيني. ولأنه كان مخلصا لحياته بقدر إخلاصه لفنه فقد كان لما تعلمه في الحياة أثر كبير في تطوير طريقة تفكيره في الخزف.

مرحلة استلهام الحروف يغلب عليها الطابع التجريدي الغنائي

ظهر في المشهد الفني العراقي باعتباره نجما. كان قريبا من أعضاء جماعة الرؤية الجديدة وعرض أعماله إلى جانب أعمال للناصري وهاشم سمرجي وضياء العزاوي وصالح الجميعي. كان ذلك حدثا غير مسبوق. فلأول مرة يعرض خزاف أعماله مع مجموعة من الرسامين. لقد اعتبره الآخرون حالة ثورية تليق بزمانهم.

تأخر في إقامة معرض شخصي حتى بداية ثمانينات القرن الماضي. يومها انتقل من مرحلة استلهام الحروف التي يغلب عليها الطابع التجريدي الغنائي إلى مرحلة البيوت المهدمة بسلالم تُذكر بسلم زقورة أور. ومن الواضح أن الفنان كان قد أجل إقامة معرض شخصي لأعماله إلى أن يكون على يقين من أن أسلوبه الشخصي قد اكتمل وأزال عن جسده قشرة التزيين وأنهى إلى غير رجعة محاولة التودد إلى المتلقي عن طريق ما يراه جميلا. لقد طرح إبراهيم يومها مفهوما جديدا للجمال.

مع أعمال إبراهيم انفتح الخزف الذي كان يُوصف بالتجريد كالموسيقى حسب ناقد الفن البريطاني هربرت ريد على جمال الوحشة والغربة والفقدان والخراب. لم يكن ذلك الجمال يقع في مكان عال ومنفصل لا يترك عليه الزمن أثرا منه بل كان يظهر باعتباره بقايا لحياة أو لخيال. لا فرق. غير أنه يساوي بين الاعتراف الموجه إلى الآخرين وقوة الرثاء الكامنة في أعماقه.

عمل خزفي بمثابة تجربة رثاء

لم تعد المعادلات البصرية في أعمال إبراهيم مصاغة حسب قوانين الخزف التقليدية. لم يكن هناك ذلك الانسياب الموسيقي ولم تكن حساسية المادة لتغلب البصر وتداهمها بحيث تمنع قدرتها على التمييز بين ما هو قديم وأصيل وما هو جديد وحيوي. لقد وعد إبراهيم نفسه بخزف مختلف في محاولة منه لإبعاد الصفة التطبيقية التي تتعلق بالحرفة عن الخزف.

لم يكن في إمكان أي أحد أن يصنع أعمال إبراهيم مثلما يحدث مع أعمال الخزف المتداولة. كان ذلك هو عالمه الشخصي. العالم الذي يجمع بين صورة الشيء وفكرته. بين ما كان عليه الشيء وما سيكونه. عليك أن ترى وأن تتخيل في الوقت نفسه. وفي كل ما خلق كان هناك نوع عميق وصامت من الرثاء. كان كل عمل خزفي منه بمثابة تجربة رثاء.

الفنان المعذب

جمع إبراهيم في فنه بين الرقة والخشونة. وكان في ذلك يعبر عن ميله إلى أن يعرض شغفه بالعناصر الشكلية للخزف التقليدي ”الكرة والأسطوانة بشكل أساس“، لشغب الزمن وقدرته على التدمير. لم يخضع لجماليات الخزف الوهمية على حساب تماسه مع فجائعية الواقع وبالأخص أنه كان ينظر إلى الواقع بعينين غارقتين بجدل التغيير.

كانت العلاقة بالزمن تربكه وتحرجه وتدفع به في أحيان كثيرة إلى الحزن. لم يكن خزافا سعيدا تنساب أصابعه على سطح أملس فيما تتأمل عيناه زخرفا ينطوي على الكثير من الذكريات البصرية. في حقيقته كان طارق إبراهيم فنانا معذبا يرغب في ألا يخونه الطين ويخلص إلى عاداته في صنع أعمال جميلة خالية من أي معنى.

عن جريدة العرب