من تاريخ التعليم العالي في العراق..المحاولات الأولى لفتح الجامعة الأمريكية في العراق

من تاريخ التعليم العالي في العراق..المحاولات الأولى لفتح الجامعة الأمريكية في العراق

د .منار عبد المجيد عبد الكريم

لم يكن اهتمام الحكومة العراقية بالبعثات الدراسية مجرد صدفة، بل كان ذلك يرتبط بعوامل عدة ، أبرزها هناك طلبة عراقيون كانوا يدرسون في الجامعة الأمريكية في بيروت قبل تأسيس الدولة العراقية، وان كان عددهم لا يتجاوز سوى(6) طلاب فقط ، إلا انه أصبح لهم مكانة مرموقة في مؤسسات الدولة أمثال ناجي الأصيل الذي أصبح وزيراً للخارجية في وزارة حكمت سليمان التي تشكلت على اثر نجاح انقلاب بكر صدقي في 29 من تشرين الأول 1936

، كما ان استقدام وزارة المعارف لعدد من خريجي الجامعة الامريكية في بيروت للتدريس في المدارس الثانوية ، كل ذلك ، قد زاد من حماسة ورغبة الطلبة الآخرين لمواصلة دراستهم في هذه الجامعة.

وفي السياق ذاته، أكدت المس بيل ( Miss Bell ) عند زيارتها دار المعلمين في بغداد على حقيقة ذات علاقة بحاجة البلاد إلى التعليم الغربي، عندما قالت هذا الكلام:

“أن على الإنسان أن يتعلم من اللغات الأجنبية حاجته ليشترك مع العالم الغربي الحي”.

بالمقابل ، أثنى مدير دار المعلمين محمد أفندي خليل على كلام المس بيل وأيده جملة وتفصيلاً عندما ذكر هذه الحقيقة:

“واني أرى الأمة متعطشة إلى التعليم العالي”.

بحكم هذه التوجيهات ، بذلت وزارة المعارف جهوداً مضنية من اجل تفعيل التعليم العالي في العراق، اذ اقترحت على مجلس الوزراء بتخصيص مبالغ مالية من اجل إرسال بعثات علمية للخارج. وقد وافق مجلس الوزراء بتاريخ 5 تموز 1921 على هذا الاقتراح، وفق شروط عدة، أبرزها “ اخذ سند وكفيل من كل طالب يرسل إلى الخارج على حساب الحكومة”، وان” يخدم الحكومة بحسب ما تقرره وزارة المعارف “ ، واذا ما خالف الطالب ذلك ، يشترط عليه” أداء ما صرف عليه من قبل الحكومة”. فضلاً عن، قيام وزارة المعارف بقطع “ المساعدة” عن أي طالب يتهاون في تحصيله العلمي، وان يدفع الطالب “نصف” المصارف التي صرفتها الحكومة العراقية عليه. مع العلم، أن تكاليف طالب البعثة في بيروت كانت لا تزيد عن 7،5 دينار شهرياً في العام 1922 ثم أخذت تزداد سنوياً تبعاً لارتفاع مستوى المعيشة. ينبغي أن نشير هنا إلى، أن ميزانية وزارة المعارف كانت تبلغ 142,425 مائة واثنا واربعون الف دينار واربعمائة وخمسة وعشرين دينار من مجموع الميزانية العامة للدولة العراقية 4,436,065 اربعة ملايين واربعمائة وستة وثلاثين الف دينار وخمسة وستين دينار عام 1921 طبقاً للمعلومات التي وثقتها دراسة اعدت خصيصيا عن تاريخ التعليم في العراق في عهد الانتداب البريطاني.

وفي الواقع ، أن الحكومة لم تقصر بتاتاً في دعم طلاب البعثات، فيكفي أن نشير إلى، أن ما صرفته الحكومة للبعثات العلمية عام 1941 قد بلغ 39,245,582 تسعة وثلاثون ألفاً ومائتان وخمسة وأربعون ديناراً وخمسمائة وأثنى وثمانون فلساً، كانت حصة الطلبة الدارسين في الجامعة الأمريكية بيروت تبلغ 11,093,496 احد عشر ألفاً وثلاثة وتسعون دينار وأربعمائة ومائة وتسعون فلساً طبقاً لما جاء في وثيقة رسمية. ويبدو، أن هذه التكاليف أخذت تشكل عبئاً ثقيلاً على ميزانية الدولة بسبب الآثــــــار السلبية التي تركتها الحرب العالمية الثانية(1939-1945) على البلدان عموماً، والعراق خصوصاً ، الأمر الذي دفع وزارة المعارف الى “تقليص البعثات إلى الجامعات الأمريكية، وتوجيهها إلى الجامعات البريطانية” وذلك “لارتفاع تكاليف المعيشة في بلاد الدولار وانخفاضها في بلاد الإسترليني”. فضلاً عن، “اعتدال التكاليف في بريطانيا”، و” لسمو الجو العلمي ومتانة الدراسة فيها”. وكان من الأجدر، أن تقوم الحكومة العراقية بفتح جامعات أجنبية في داخل العراق أسوة بالجامعة الأمريكية في بيروت( موضوع دراستنا)، والجامعة الأمريكية في القاهرة، الأمر الذي كان يجنبها الكثير من التكاليف. فضلاً عن توفر المزيد من الوقت والجهد للطلبة. مع العلم، ان القيمين على الجامعة الأمريكية في بيروت كان لديهم رغبة أكيدة في تأسيس جامعة في ولايتي الموصل والبصرة ، قبل تأسيس الدولة العراقية إلا أن السلطات العثمانية رفضت ذلك. فضلاً عن ،رفض الوجهاء في الموصل والبصرة كونهم يمثلون عوائل دينية محافظة، فقد كانوا ينظرون إلى الجامعة الأمريكية في بيروت على أنها “ تمثل الثقافة الامبريالية والتسلط الأجنبي على العرب والمسلمين”. وقد جدد القيمون على الجامعة رغبتهم في تأسيس جامعة في العراق بعد تأسيس الدولة العراقية عام 1921، إلا أن هذه الرغبة باءت بالفشل بسبب عدم تشجيع المسؤولين العراقيين بتحريض من ساطع الحصري، لأنه كان يعتقد أن تأسيس جامعة أمريكية في بغداد يعني” نشر الأساليب التربوية الأمريكية”، ومن ثم “ القضاء على اللغة العربية”. ولكن مع كل ذلك ، ظلت رغبة تأسيس جامعة امريكية في العراق تراود اذهان المسؤولين العراقيين حتى السنوات الاخيرة من عمر النظام الملكي. لنتابع معا ماذا قال الخريج محمد فاضل الجمالي بهذا الخصوص:

“كان مشروعي المحبب هو انشاء جامعة اميريكية في العراق... وابدى نوري تأييده للفكرة. ولم يكن بأستطاعة وزارة الخارجية ان تجد الطريقة والوسائل اللازمتين لانشاء مثل هذه المؤسسة، ولم يتحقق المشروع على الاطلاق. وانا واثق بأن هذا النوع من الجامعات يمكن ان يكون جسرا بين امريكا والعراق ويخدم مصالحهما اكثر...”.

وعلى الرغم من كل المواقف الرافضة، سواء كانت على الصعيد الرسمي، أو على الصعيد الاجتماعي، إلا أن الصحافة العراقية ظلت تدعو العوائل العراقية بتشجيع أبنائها للدراسة في الجامعة الأمريكية في القاهرة بدلاً عن بيروت، كون القاهرة تمثل” بيئة أسلامية”، في حين تمثل بيئة بيروت “ بيئة مسيحية”. فقد خصصت جريدة “ العراق” مكاناً بارزاً في أحدى صفحاتها للتعريف بالجامعة الأمريكية في القاهرة بأنها “ تتميز بمحيط ذي ثقافة عربية حديثة عالية”، و” تقدم تسهيلات خاصة للطلاب العراقيين” وهي “ ثلاث مساعدات مالية قيمة”. فضلاً عن، “ شهادات تؤهلها من الدخول في جامعات في أمريكا وانكلترا وسويسرا”). ولكن على مايبدو، ان هذه الدعوات لم تجد اذانا صاغية ، فقد ظلت الحكومة العراقية ترسل طلبتها الى الجامعة الامريكية في بيروت بدلا من الجامعة الامريكية في القاهرة وذلك لان بيروت “اقرب” الى العراق من القاهرة . فضلا عن، انها”ارخص” قياسا للدول الاوربية الاخرى.

ان الطلبة الآخرين الذين أتاحت لهم الفرصة لإكمال دراستهم في الجامعة الأمريكية ببيروت أمثال نجيب خروفه وساهرة القاضي وبهيجة الكبيسي وصبيحة إبراهيم أبو داود واراكس. أما الطالبان داود سلمان وناجي مراد، فقد دونت ثانوية البصرة للبنين معلوماتها عن الأول بان ذكاءه” دون الوسط” ، و”قليل الاجتهاد والتتبع”، و” لا يعتقد انه قومي النزعة”. فضلاً عن، انه “ راسب في السنة الماضية”. في حين، وثقت أدارة دار المعلمين في البصرة عن الثاني بأنه ذكاؤه «متوسط»، وانه يتمتع بسمعة»جيدة وحسنة»، إلا أن « نزعاته القومية لا يطمئن لها».

ينبغي أن نشير هنا إلى، أن وزارة المعارف، قد أصدرت تعميماً إلى جميع الوزارات العراقية أكدت فيه على عدم ضم أي شخص إلى بعثة أو منحة أو ايفاده بأجازة دراسية أو تعيينه قبل الاتصال بوزارة الداخلية وذلك من اجل التعرف على سلوكه الشخصي واتجاهاته السياسية.مع العلم،أن هذا التعميم كان موقعاً من خليل كنه وزير المعارف الذي يعد واحداً من ابرز خريجي الجامعة الأمريكية في بيروت خلال حقبة الدراسة،الأمر الذي يؤكد ومن دون شك،أن خريجي الجامعة عندما عادوا إلى العراق انقسموا إلى فريقين،فريق مؤيد للسلطة،وأخر معارض لها.

من جهة اخرى، اعترضت عوائل الطلبة الذين لم تعلن أسماء أبنائهم في البعثات اذ رفعوا مذكرات إلى الملك فيصل الأول احتجوا فيها، على آلية إرسال البعثات التي افتقرت إلى إجراء امتحان اللغة الانكليزية كونه يمثل في نظر المعترضين، هو المعيار الوجيه لاختيار طلبة البعثات، إلا أن وزارة المعارف قد بررت هذا الموضوع بهذا الشكل:

«...، فلو أجريت المسابقة (الامتحان) التي يعلق عليها أهمية كبرى، على معرفة لغة أجنبية لكان من نتائجه زيادة نسبة الذين يدخلون البعثة من اليهود والمسيحيين، وعدم تمثيل الشيعة».

لا شك ان النفوذ السياسي كان يلعب دورا واضحا في انتقاء المرشحين، وقد ايد الخريج زهير رايح العطية هذا الكلام، الاانه اكد على ان اغلب ابناء المسؤولين الذين ارسلوا الى الجامعة الامريكية قد اثبتوا جدارة كبيرة ،فمنهم من اصبح وزيرا خلال حقبة الدراسة امثال، رشدي عبد الهادي الجلبي وجمال عمر نظمي،الامر الذي يؤكد،انهم كانوا في الاساس مؤهلين من الناحية العلمية للبعثات الدراسية.مع العلم،ان جريدة «العراق» قد اكدت على ضرورة ان تكون البعثات»مختصرة «على الطلاب الفقراء أو الذين لا تساعدهم ماليتهم على التخصص وانجاز دراساتهم في الخارج». فضلاً عن ذلك، يجب على الحكومة أن « تفتش عن الطلاب النبهاء وتساعدهم على اتمام دراستهم في الخارج.» وختمت الجريدة مقالها بهذا الكلام المعبر:

«وبهذا تخدم وزارة المعارف البلاد خدمة مزدوجة: تكثر عدد المتعلمين،وتفتش عن ظهور المواهب والنبوغ وتضاعف عدد الدارسين دراسة علمية».

فضلاً عن ذلك، كانت البعثات تضم خريجين ينتمون إلى عوائل ارستقراطية أمثال محمد حديد الذي كان والده الحاج حسين حديد من المتاجرين بالسلع المحلية، ونجيب الصابونجي الذي ينتمي الى أغنى البيوتات التجارية في الموصل، إذ كان والده مصطفى من أعيان الموصل وكبار تجارها. كما كانت تضم خريجين ينتمون إلى عوائل دينية أمثال عبد الفتاح إبراهيم الذي كان والده رجل دين، ويوسف الكيلاني الذي يتصل نسبه بالشيخ عبد القادر الكيلاني. كما ضمت البعثات طلبة ينتمون الى طبقات فقيرة.

عن رسالة (( الجامعة الامريكية في بيروت واثرها على الفكر السياسي في العراق الملكي))