من ذكريات انتخابات 1954 مع الجبهة الوطنية

من ذكريات انتخابات 1954 مع الجبهة الوطنية

فاضل عباس البدراوي

اواسط عام 1952 سافر اخي محمد الى بغداد طلبا للعمل ثم التحقنا به في صيف عام 1953 واستأجرنا غرفة مع عائلة في محلة ابوسيفين الواقعة في شارع الكفاح، كان اخي يعمل في شركة رشيد عارف وشريكه المحامي اليهودي شالوم درويش للمقاولات الانشائية، وكان هذا المحامي عضوا في الحزب الوطني الديموقراطي ترشح عن المقعد المخصص ليهود بغداد في انتخابات عم 1948 ضمن قائمة الحزب الوطني الديموقراطي.

نظرا لحاجتنا الماسة لمصدر رزق اشتغلت مع اخي في تلك الشركة كعامل بناء بالرغم من ان سني لم يتجاوز الاربعة عشر عاما، واتذكر ان اول موقع اشتغلت فيه هو بناية المصرف العثماني الواقعة بين شارع المستنصر وشارع الرشيد الذي تحول فيما بعد الى البنك المركزي العراقي، ثم انتقلت الشركة لانشاء فندق بغداد حيث عملت ايضا في انشاء بناية الفندق، في نفس ذلك العام كنت اداوم في المدرسة الجعفرية المسائية لاكمال دراستي الابتدائية. كان في تلك الفترة يتردد على دارنا شاب اسمر يتقد حيوية ونشاطا، علمت انه المسؤول الحزبي عن اخي محمد ويدعى عدنان اسماعيل السامرائي الملقب بعدنان الاسود لسمرته الشديدة، وكان عدنان ابن اخت الشخصية القومية المعروفة المرحوم فائق السامرائي نائب رئيس حزب الاستقلال انذاك، عندما شاهدني عدنان قال لاخي ان اخاك شاب نازك وصغير السن وحرام ان يشتغل في العمالة سوف ارسله الى معمل نجارة يعمل فيه عدد من رفاقنا ليتعلم مهنة النجارة، بالفعل ارسل بيدي رسالة الى احد العمال الشيوعيين الذي كان يعمل في معمل نجارة صاحبها شخص ارمني يدعى ميساك وكان المعمل يقع في محلة السنك مكان جسر السنك الحالي. كان يعمل في المعمل حوالي خمسة عشر عاملا او ربما اكثر بقليل وكان معظم هؤلاء العمال هم اما شيوعيين او اصدقاء للحزب كان بينهم الصديق احمد لطيف امد الله في عمره، الذي اصبح بعد ثورة 14 تموز نائبا لرئيس نقابة عمال النجارة. بعد عملي في المعمل بضعة اسابيع سأل عدنان اخي محمد عن مقدار الاجرة التي اتقاضاها في العمل فاخبره ان الاجرة التي خصصت له هو درهم واحد في اليوم (خمسون فلسا) فقال له ليترك العمل هناك فسأرسله الى مطبعة ستكون اجرته اكثر ومهنة الطباعة افضل من النجارة، وارسل بيدي رسالة الى شخص يكنى بأبي زيد واسمه الحقيقي عبد اللطيف العزاوي، ظهر انه من اصدقاء الحزب، كانت المطبعة تقع في شارع الرشيد محلة رأس القرية ( قرب المكان الذي جرت فيه محاولة اغتيال الزعيم عبد الكريم قاسم) وكان اسم المطبعة هو مطبعة البدر، وجدت في المطبعة مكانا مريحا والعمل فيه جميل ولاول مرة في عمري اشاهد كيف تتم عملية الطباعة، كما ان المطبعة خصصت لي اجرة يومية قدرها اربعة دراهم وكانت هذه الاجرة لابأس بها في ذلك الوقت، وبذلك انخرطت في مهنة الطباعة واحببتها واستمريت فيها لحد الان، كان ذلك في بداية عام 1954.

في ربيع عام 1954 ، حدث فيضان كبير هدد بغداد بالغرق وارتفعت مناسيب دجلة الى مستويات عالية جدا حيث غمرت المياه مساحات شاسعة محيطة ببغداد بالاخص من الجهة الشرقية، بعد ان اضطرت الجهات المسؤولة عن الري من احداث فتحة في منطقة الراشدية لتسريب المياه الى خلف سدة ناظم باشا ( مكان المرور السريع حاليا) كما تم جلب اعداد كبيرة من الجنود والشرطة ليدرأوا خطر الفيضان المحدق ببغداد الا ان ذلك لم يكن كافيا حيث حدثت عدة فتحات من جهة الوزيرية تم السيطرة عليها بصعوبة بالغة. اصدر الحزب الشيوعي العراقي بيانا حينذاك بعنوان، هبوا يا جماهير شعبنا لانقاذ بغداد من الغرق، ولم يخل البيان كالعادة من مهاجمة النظام الملكي وحكومة فاضل الجمالي التي لم تأخذ احتياطات كاملة لمثل هذه الامور، فالحقيقة كان لبيان الحزب صدى واسعا في صفوف ابناء الشعب وبالاخص شباب الجامعات والفئات المثقفة والعمال والكسبة وبقية شرائح المجتمع، ما ان تم توزيع البيان المذكور حتى تدفق الاف الشابات والشباب من طلبة الكليات والاعداديات وشاركهم في ذلك مئات العمال وبقية فئات المجتمع، تدفق هؤلاء منذ الصباح الباكر الى سدة ناظم باشا واخذوا ينقلون اكياس التراب على ظهورهم الى السدة، وكان تلاحما رائعا بين جماهير الشعب والجنود والشرطة، بالفعل تم انقاذ بغداد من الغرق، كان هذا موقفا وطنيا نابعا عن حب واخلاص غير المتناهي للشيوعيين العراقيين لبلدهم، بالرغم من انهم كانوا مطاردين ويقمعون بقوة من قبل سلطات النظام الملكي وان عددا كبيرا منهم كانوا يقبعون في غياهب السجون، بينهم قياديون بارزون الا ان ذلك لم يحل دون قيامهم بواجبهم الوطني.

في الشهر الخامس من عام 1954 استقالت حكومة الجمالي، كلف الملك ارشد العمري بتشكيل وزارة جديدة، بالفعل تم تشكيل وزارة العمري التي قامت بحل المجلس النيابي والاستعداد لاجراء انتخابات نيابية جديدة، بدأت التحضيرات لاجراء تلك الانتخابات، جرت مشاورات بين الاحزاب والقوى الوطنية لتشكيل جبهة موحدة لخوض الانتخابات، تمخضت تلك المشاورات بتأليف جبهة انتخابية باسم الجبهة الوطنية الموحدة، تألفت من حزبي الوطني الديموقراطي برئاسة الراحل كامل الجادرجي وكان هذا الحزب يمثل يسار الوسط المعتدل وحزب الاستقلال وكان حزبا قوميا، كذلك مثل الحزب الشيوعي عن طريق ممثلين عن العمال والفلاحين والطلبة لان نشاط الحزب كان محضورا، جرت مهرجانات شعبية كبيرة في الاسواق والساحات العامة ومسيرات كانت تستمر حتى منتصف الليل، شاركت فيها جماهير واسعة تأييدا لمرشحي الجبهة وبالاخص في مناطق ابو سيفين والشورجة وسوق الصفافير ومحلة فرج الله، وكانت هذه المنطقة هي المنطقة الانتخابية الثالثة في بغداد ومرشح الحبهة عنها هو زعيم الحزب الوطني الديموقراطي والزعيم الفعلي للجبهة المرحوم كامل الجادرجي، كذلك جرت تجمعات ومسيرات جماهيرية في منطقة الفضل وهي المنطقة الانتخابية الاولى تأييدا لمرشح الجبهة المرحوم مظهر العزاوي وكان من قادة الحزب الوطني الديموقراطي، اطلقت حكومة العمري بعض الحرية لمثل هذه الممارسات، كدأب النظام الملكي حينذاك حيث انه كان بعد كل حملة قمعية للحريات الديموقراطية تعطي فسحة نسبية من الحريات لامتصاص غضب الجماهير، الحق يقال ان وراء تحشيد الجماهير انذاك كان الحزب الشيوعي، عبر تعليماته لمنظمات ورفاق الحزب لدعم مرشحي الجبهة بقوة وبالاخص المرحوم الجادرجي. كنت اشارك في معظم تلك الفعاليات تنفيذا لتعليمات الحزب حيث كنت منظما فيه بصفة مؤيد منظم (بفتح الظاء) لصغر سني، الا انني كنت ادفع الاشتراك الشهري واجمع التبرعات من اصدقاء كسبتهم لصفوف الحزب وانفذ التعليمات الحزبية وقد خصص لي مسؤل حزبي كغيري من صغار السن او الذين يبدأ رفاق الحزب بكسبهم.

وبعد اجراء الانتخابات، اتذكر انها جرت في اواسط حزيران، عام 1954 شابتها انتهاكات واسعة واعتقالات لعدد من نشطاء الجبهة وعمليات تزوير واسعة، بالرغم من ذلك نجحت الجبهة في ايصال 11 نائبا الى البرلمان .. عد عقد اول جلسة للبرلمان المنتخب الجديد، كلف الملك نوري السعيد بتشكيل وزارة جديدة بعد استقالة حكومة ارشد العمري، كان ذلك ينذر بالشؤم على الحياة السياسية في العراق لان نوري السعيد كان معروفا بعدائه الشديد لكل القوى الوطنية والديموقراطية واليسارية والقومية، وكان كلما يشكل حكومة تشن حملات قمعية ضد المعارضين، ويقمع حرية الصحافة وان اسمه يقترن مع التهيئة لعقد احلاف عسكرية مع الدول الغربية، بالفعل اول عمل قام به نوري السعيد بعد تشكيله الوزارة هو حل البرلمان الجديد واجريت انتخابات نيابية جديدة قاطعتها معظم القوى الوطنية

عن سلسلة مقالات (ذكريات سياسية - عشت أحداثا وكنت شاهدا عليها )ـ

الحوار المتمدن