المرجع الذي أخذنا إلى الغد

المرجع الذي أخذنا إلى الغد

طلال سلمان

لم نتعوّد الكتابة عن المرجع ـ المنارة السيد محمد حسين فضل الله بصيغة «الغائب»، وهو الذي كان حضوره المشع بنور الدين يعزز فينا المعرفة بدنيانا لتكون لائقة بكرامة الإنسان وحقه في الحياة التي كرّمه بها الله.

ولسوف يظل «السيد» حاضراً في يومياتنا باجتهاداته التي فتحت أبواب الدين أمام أبناء الحياة ليعيشوها متحررين من حكم الحاكم الظالم وعسف المحتل الدخيل، والمتاجر بالدين بحبسه في مجموعة من الطقوس التي تختلط فيها الخرافة بالبدعة من أجل الحجر على العقل، وتصوير الاعتراض على الخطأ وكأنه خروج على النص المقدس.

لقد قاد هذا النجفي المتحدّر من عيناتا (على التخم مع فلسطين) لأسرة من العلماء، مع بعض رفاقه المستنيرين، ثورة حقيقية في قلعة الفقه ومركز المرجعية هدفها الأساسي ربط الدين بالحياة، وتيسيره على المؤمنين، وجعلوه يحرّض على كسر النمطية والتقليد الجامد، بفهم كونه يحرّض على رفض الخنوع والاستسلام والتعامل مع الحاكم ـ مهما بلغ ظلمه ـ وكأنه ظل الله على الأرض والخروج على طاعته هي الكفر عينه.

تمّ تحرير النص الديني من بعض «الشروحات» التي كادت تقفل باب الاجتهاد، مداراة لحاكم عاتٍ، أو لتجنّب الصدام مع غاز محتل، أو بذريعة الامتناع عن التسبّب في فتنة، في حين أن الصمت عن الخطأ هو الباب إلى الفتنة.. أما «علماء السلطان» فكانوا لا يتعبون من تسخير النص الديني، بحسب تفسيرهم المخل، بمعناه الأصلي، لتبرير الظلم وكأنه قدر مفروض لا مجال لتحديه أو الخروج منه.

وعبر معارك قاسية، أعيد النص الديني، بتفسيره الصحيح، إلى خدمة الإنسان في يومه وفي غده، وعلى قاعدة أن الدين يُسر لا عُسر، وكذلك على قاعدة أن الله قد أكرم الإنسان فأهداه النجدين، فأُسقطت مجموعة من الطقوس والعادات التي أسبغت عليها صفة المحرّمات… فإذا بالإمكان ـ مثلاً ـ تحديد الموعد الدقيق، وبالثانية، لولادة القمر وغيابه، وتحديد بداية الشهر الهجري، وبالتالي أن يعرف المؤمنون يوم عيد الفطر المبارك فلا يظل ضائعاً عنهم أو ضائعين عنه كل سنة، بما ينذر بفتنة، بعدما تعدّد محدِّدو موعد بدء الصيام وختامه ـ العيد.

وعبر معارك أقسى أعيد إلى «الجهاد» معناه الأصلي، فإذا مقاومة المحتل، أي محتل، فرض عين، وإذا مقاتلته واجب شرعي، يستوي في ذلك الاحتلال الإسرائيلي، أو الاحتلال الأميركي، أو أي احتلال آخر لأي أرض عربية وإسلامية. وكيف يمكن لابن عيناتا الذي شهد مأساة الاحتلال الإسرائيلي لفلسطين وخروج أهلها إلى شتات اللجوء أن ينسى أو يتناسى المأساة التي أسهمت في صياغة وعيه بالحياة.

صار الإيمان لازمة للتحرر والتحرير، التحرر من الخرافة والبدعة، وتحرير الأرض والإرادة من أي قاهر بالقوة أو بالخديعة وشق صفوف المؤمنين بتقسيمهم مذاهب وشيعاً وعناصر، مما يمكّن للمحتل ويشغل الناس بخلافاتهم «الفقهية»، وكثير منها من صنع قلة من المعمّمين الذين يزهدون بالدنيا تاركين الأمر لله، وبعضها الباقية من ابتداع قلة أخرى تأكل خبز السلطان وتفتي بأمره ولأمره.

صارت الثورة على الظلم والفساد الوجه الآخر للثورة على الاحتلال ومن ضمنه الاستيطان والسكوت عن الظالم والمحتل عملاً بحكمة أن العين لا تقاوم المخرز، أو أن كل شيء إنما يتم بإرادته عز وجل… وكأنما الاستيطان الإسرائيلي في أرض الشعب الفلسطيني وتحويله إلى مجاميع من اللاجئين إلى أوطان الآخرين «فريــضة» أو أنه قدر لا رادّ له، إلا إن شــاء الـله… والإحالـة إلى مشيـئة اللـه للتخـديـر لـيس إلا.

ولقد فهم المحتلون جميعاً، إسرائيل أساساً، ومن بعد الساعون لفرض الهيمنة الأميركية، خطورة الدور التنويري القيادي الذي يلعبه السيد محمد حسين فضل الله، ومن هنا تكرّرت المحاولات لاغتياله ولو بهدم حي كامل في الضاحية النوارة (حارة حريك) على رؤوس سكانه رجالاً ونساءً وأطفالاً.

كذلك فإن الثورة التي قادها هذا العالِم الذي خرج على الناس بتفسيره الصحيح للدين وفروضه، قد أخافت منه الذين يريدون إبقاء التقليد تقليدياً، فجاهروا باعتراضهم أن تستقر مرجعية جديدة، أو بديلة أو موازية للمرجعية القديمة، في بئر العبد ـ حارة حريك، خصوصاً أنها خارج السيطرة، لا يمكن شراء سكوتها أو إخضاعها، بعدما توجه نحوها المؤمنون الباحثون عن مرجع صالح، مستنير ومعاصر، يؤمن بالعلم ويحترم العقل ويحض على الجهاد ويرفض التنازل للسلطان.

ولقد كنا نقصد «السيـد» في أيام الشدة، وما أكثرها، لنثبت إيماننا بالإنسان وقدراته، ولنستنير بحكمته، ولنتعلم منه الصبر على الشدائد ومقاومة ما يُراد فرضه علينا. ولطالما قصدناه في زمن الحرب الأهلية من أجل تحرير «مخطوفين» لا ذنب لهم إلا أنهم قد يفيدون في «المقايضة» بمخطوفين آخرين، أو للضغط على هذه الجهة أو تلك من أجل قرار لا يعرفون ماهيته ومن يطلبه.

كذلك فلقد كنا نقصده طلباً لثقافة الحياة، وهو الشاعر، الناثر، الفقيه، القائد، المرشد، المصلح الاجتماعي والمستنير بإيمانه ومنير الطريق أمام الراغبين في الخروج من التيه إلى ميدان العمل من أجل غد أفضل للإنسان في وطنه.

بعد كل زيارة كنا نعود أكثر ثباتاً على إيماننا بعروبتنا، فهي عنده رابط مقدس، أولها تحرير فلسطين عنوان تحرير الإرادة العربية، ومعها العراق بعدما ورث الاحتلال الأميركي الطغيان فيه ووضعه على حافة الحرب الأهلية بالتمزقات التي اتخذت طابعاً متعدد «الهويات»: فهو طائفي في جهة، مذهبي في جهة ثانية، عنصري في جهة ثالثة، وهو في كل الحالات لا يخدم إلا الاحتلال ودعاة الانفصال ولو بتمزيق العراق.

وكنا من نعود من لدنه أكثر يقيناً بأن الجهاد في سبيل تحرير الأرض والإرادة هو هو الجهاد في سبيل الله، وأن الدين من أجل الإنسان لا من أجل السلطان، وأن العقل نعمة من الله سبحانه وتعالى وعلينا احترامه واعتماده من أجل أن تكون لنا حياة أفضل.

لقد جعل السيد محمد حسين فضل الله «المرجعية» حاضرة في حياتنا اليومية، تؤكد أن الإنسان هو الأصل، وأن الدين دليله إلى حقوقه وفي طليعتها حقه بالحياة الكريمة، والتحرر من كل ما يهدر إنسانيته سواء أكان حاكماً ظالماً أم متحكماً جاهلاً أو مستعمراً دخيلاً، وكل أولئك يسخر الإنسان ـ والوطن ـ لخدمته، بفرض الجمود على العقل بإرهاب التحريم والتكفير ممالأة للسلطان محلياً أو محتلاً أجنبياً.

عزاؤنا، أيها «السيد» في نهجك، وفي مؤسساتك الناجحة وهي تعمل في خدمة الإنسان، وفي تراثك الغني وقد تركت لنا مكتبة عظيمة فيها إلى جانب شروحاتك العصرية للدين وتعاليمه بالاستناد إلى العقل والمنطق مؤلفاتك في الثقافة وعلوم الحياة إضافة إلى دواوينك التي تجعلك تحتل موقعاً بارزاً بين شعراء عصرنا.

لقد أغنيتنا في حياتك بحياتك، وبنتاجك الغني، وبمنهجك العقلي والعصري في فهم الدين وتوكيد ارتباطه بالتقدم الإنساني، وها أنت تترك لنا ما تنتفع به الأجيال القادمة، ثقافة وعلماً وإيماناً.

فليباركك الله مرجعاً يرشدنا إلى طريق التقدم ويعزز فينا إحساسنا بكرامتنا كبشر وكأصحاب قضية تستحق أن نجاهد من أجلها… وأنت القدوة اليوم وغداً وفي كل زمان.

عن موقع جريدة السفير اللبنانية